الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأيت من يبغض يحيى بن معين فاعلم أنه كذاب، ولا يبغض يحيى بن معين ويتكلم فيه وفي أمثاله إلا من هو من أهل الكذب.
فصل
[في موالاة أهل السنة لعلي وتفسيقهم لمن سبوه وطغوا عليه]
وأما قوله: ونشأ من هذا الافتراق الأمر العظيم، وهو استمرار لعن علي عليه السلام على المنابر حتى قطعه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
فيقال: أما لعن علي رضي الله عنه فإنما فعله طائفة قليلة من بني أمية، وهم عند أهل السنة ظلمة فسقة، وأهل السنة ينكرون عليهم ذلك بألسنتهم، ويروون الأحاديث الصحيحة في فضائل علي، وذلك أنهم أرادوا وضعه عند الناس، وحط رتبته ومحبته من قلوبهم، فجازاهم الله بنقيض قصدهم، ورفعه الله. وأظهر أهل السنة والجماعة فضائله، وحدثوا بها الناس، فاشتهرت عند العامة فضلا عن الخاصة، وجميع أهل السنة يحبونه ويوالونه رضي الله عنه.
فلما زالت دولة بني أمية، وجاءت دولة بني العباس في سنة ثنتين وثلاثين ومائة انقطع لعن علي رضي الله عنه.
وأما قول المعترض: أن ابن تيمية روى في منهاجه أنه استمر لعن علي إلى زمانه، وأما في أيامه فقد انقطع، فهذا كذب ظاهر على ابن تيمية رحمه الله، وقلة حياء فيمن نسب ذلك إليه، ومنهاج السنة موجود عندنا، ولم يذكر هذا فيه، وابن تيمية أجل من أن يخفى عليه هذا الأمر الواضح الذي يعرفه أدنى من له معرفة بالسير والتواريخ، وأنه انقطع من الشام، وغيره من بلاد الإسلام.
ثم ظهرت الدولة العباسية وانقطعت الدولة الأموية في أيام السفاح الذي كان هو أول ملوك بني العباس، وقتل مروان الملقب بالحمار الذي هو آخر ملوك بني أمية سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وأعجب من هذا قوله: إن ابن تيمية أيضًا روى في منهاج السنة أن كثيرًا من علماء السنة والجماعة حكموا بتخطئة علي في حروبه، إلا أحمد بن حنبل إمام الشيعة عند التحقيق، فإنه قال: من خطأ عليا في حروبه فهو كحمار أهله. انتهى معنى كلام ابن تيمية.
والجواب أن يقال: إن هذا من الكذب الظاهر على ابن تيمية، وعلى أحمد ابن حنبل -رحمهما الله-، وهذا نص لفظ ابن تيمية في المجلد الأول من كتاب "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية"*:
قال رحمه الله: "ولهذا اضطرب الناس في خلافة علي على أقوال، فقالت طائفة: إنه إمام، وأن معاوية إمام، وأنه يجوز نصب إمامين في وقت واحد إذا لم يمكن الاجتماع على إمام واحد، وهذا يحكى عن الكرامية وغيرهم، وقالت طائفة: لم يكن في ذلك الزمان إمام عام، بل كان زمان فتنة، وهذا قول طائفة من أهل الحديث البصريين وغيرهم.
ولهذا لما أظهر الإمام أحمد التربيع بعلي في الخلافة، وقال: من لم يربّع بعلي فهو أضل من حمار أهله، أنكر طائفة من هؤلاء، وقالوا: قد أنكر خلافته من لا يقال فيه هو أضل من حمار أهله، يريدون من تخلف عنها من الصحابة. واحتج أحمد وغيره على خلافة علي بحديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا"1 وهذا الحديث قد رواه أهل السنن كأبي داود وغيره.
وقالت طائفة ثالثة: علي هو الإمام، وهو مصيب في قتاله لمن قاتله، وكذلك من قاتله من الصحابة كطلحة والزبير كلهم مجتهدون مصيبون، وهذا قول من يقول: كل مجتهد مصيب، كقول البصريين من المعتزلة، وأبي الهذيل وأبي هاشم ومن وافقهم من الأشعرية كالقاضي أبي بكر وأبي حامد، وهو المشهور عند أبي الحسن الأشعري. وهؤلاء -أيضا- يجعلون معاوية مجتهدا مصيبا في قتاله، كما أن عليا مصيب. وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره، ذكره أبو عبد الله بن حامد.
وذكر لأصحاب أحمد في المقتتلين يوم
* منهاج السنة النبوية 1/ 537. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
1 الترمذي: الفتن (2226)، وأبو داود: السنة (4646 ،4647) ، وأحمد (5/ 221).
الجمل وصفين ثلاثة أوجه:
(أحدها): كلاهما مصيب.
(والثاني): المصيب واحد لا بعينه.
(والثالث): أن عليا هو المصيب، ومن خالفه مخطئ.
"والمنصوص عن أحمد وأئمة السنة أنه لا يذم أحد منهم، وأن عليا أولى بالحق من غيره. أما تصويب القتال فليس هو قول أئمة السنة، بل هم يقولون: إن تركه كان أولى. وطائفة رابعة تجعل عليا هو الإمام، وكان مجتهدا مصيبا في القتال، ومن قاتله كانوا مجتهدين مخطئين، وهذا قول كثير من أهل الكلام والرأي من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد.
وطائفة خامسة تقول: إن عليا مع كونه كان خليفة، وهو أقرب إلى الحق من معاوية، فكان ترك القتال أولى. وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ستكون فتنة؛ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي"1. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحسن: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين"2 فأثنى على الحسن بالإصلاح. ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لما مدح تاركه.
قالوا: وقتال البغاة لم يأمر الله به ابتداء، ولم يأمر بقتال كل باغ، بل قال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 3 فأمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم، فإن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت.
قالوا: ولهذا لم يحصل بالقتال مصلحة، والأمر الذي لم يأمر الله به لا بد أن يكون مصلحته راجحة على مفسدته، وفي سنن أبي داود: ثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد، ثنا هشام عن محمد بن سيرين، قال: قال حذيفة: ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تضره الفتنة"4، فهذا يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن محمد بن مسلمة لا تضره الفتنة، وهو ممن اعتزل في القتال، فلم يقاتل مع علي، ولا مع معاوية، كما اعتزل سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر،
1 البخاري: المناقب (3602)، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2886) ، وأحمد (2/ 282).
2 البخاري: الصلح (2704) والمناقب (3629 ،3746) والفتن (7109)، والنسائي: الجمعة (1410) ، وأحمد (5/ 44).
3 سورة الحجرات آية: 9.
4 أبو داود: السنة (4664).
وأبو بكرة، وعمران بن حصين، وأكثر السابقين الأولين.
وهذا يدل على أنه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب؛ إذ لو كان كذلك لم يكن ترك ذلك مما يمدح به الرجل، بل كان من فعل الواجب أو المستحب أفضل ممن تركه، ودل ذلك أن القتال قتال فتنة، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ستكون فتنة؛ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من المُوضِع"1، 2.
وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تبين أن ترك القتال كان خيرا من فعله من الجانبين، وعلى هذا جمهور أئمة الحديث والسنة، وهذا هو مذهب مالك، والثوري، وأحمد، وغيره، وهذه أقوال مَن يحسن القول في علي، وطلحة، والزبير، ومعاوية، ومَن سوى هؤلاء من الخوارج، والروافض، والمعتزلة، فمقالتهم في الصحابة نوع آخر؛ فالخوارج يكفرون عليا وعثمان ومن والاهما، والروافض يكفرون جمهور الصحابة ومن والاهم، أو يفسقوهم، ويكفرون من قاتل عليا، ويقولون: هو إمام معصوم، وطائفة من المروانية تفسقه، وتقول: إنه ظالم معتد.
وطائفة من المعتزلة تقول: قد فسق؛ إما هو وإما من قاتله، لكن لا يعلم عينه. وطائفة أخرى منهم تفسق معاوية، وعمرو بن العاص، دون طلحة، والزبير، وعائشة". انتهى ما ذكره الشيخ تقي الدين بن تيمية في منهاج السنة.
فانظر -رحمك الله- بعين الإنصاف إلى كلام هذا الإمام، ثم انظر إلى كلام المعترض يتبين لك تحريفه للكلم عن مواضعه، فإن ابن تيمية إنما ذكر أن جمهور أئمة السنة يرون أن ترك قتال علي أولى من القتال، وأن تركه أحب إلى الله، وإلى رسوله لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الحسن بن علي، وغيره الدال على هذا المعنى، وتقدمت الإشارة إلى بعضها.
1 البخاري: المناقب (3602)، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2886) ، وأحمد (2/ 282).
2 الموضع كالمسرع وزنًا ومعنى.
وأما تخطئتهم عليا في ذلك فحاشا وكلا، بل كثير من أهل السنة والجماعة يرون أن عليا مصيب في قتاله لمعاوية، ومن معه، وكلهم متفقون على أنه أقرب إلى الحق، وأولى به من معاوية، ومن معه.
وأما ما ذكره عن أحمد بن حنبل، فإنما أراد أحمد بذلك: ومن لم يجعل عليا رابع الخلفاء الراشدين. وقال: من لم يربع بعلي في الخلافة، فهو أضل من حمار أهله.
وأما لفظ المعترض الذي ذكره عن أحمد: أن من خطأ عليا في حروبه فهو كحمار أهله، فليس هذا لفظ أحمد، ولا هو معنى كلامه، ولا ذكره الشيخ ابن تيمية رحمه الله عن أحمد، ولكن نعوذ بالله من التعصب، واتباع الهوى اللذَين يصدان عن اتباع الحق، ويحملان على كتمان الحق، ولبسه بالباطل؛ وقد نهى الله -سبحانه- في كتابه عن هاتين الخصلتين، فقال -تعالى-:{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.
ومن العجب أن هذا المعترض وأشباهه يعلمون أن الحسن بن علي رضي الله عنه وغيره من أهل البيت يرون أن ترك القتال أولى من فعله، وأحب إلى الله وإلى رسوله، كما اختاره كثير من أهل السنة والحديث، ومع هذا ينكرون على أهل السنة ذلك، مع زعمهم أنهم من شيعة أهل البيت. ويزعمون أن أهل السنة يبغضون أهل البيت، ومن والاهم، وقد كذبوا؛ فإن أهل السنة والحديث أولى باتباع أهل البيت منهم، وهم شيعتهم على الحقيقة؛ لأنهم سلكوا طريقتهم، واتبعوا هديهم، وقد قال -تعالى- لليهود والنصارى -لما ادعى كل طائفة منهم أن إبراهيم كان منهم-:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 2.
1 سورة البقرة آية: 42.
2 سورة آل عمران آية: 68.