الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإثباتا فحق لا اختلاف فيه بين أهل الحق، فالشفاعة المنفية إنما هي في حق المشرك الذي اتخذ له شفيعا يطلب الشفاعة منه؛ فيرغب إليه في حصولها، كما في البيت المتقدم، وهو كفر كما صرَّح به القرآن.
[حديث الشفاعة العظمى]
وأما الشفاعة التي أثبتها الكتاب والسنة فقد ثبتت للمذنبين الموحدين المخلصين، وهذا هو الذي تظاهرت عليه النصوص واعتقده أهل السنة والجماعة، ودانوا به.
والحديث الذي أشار إليه المعترض من قوله: "أنا لها، أنا لها"1 لا ينافي ما تقرر، وذلك أن الناس في موقف القيامة إذا فزعوا إلى الرسل ليشفعوا لهم إلى الله في إراحتهم من كرب ذلك المقام بالحساب، وكلٌّ ذكر عذره، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:"فيأتوني فَأَخِرُّ بين يدي الله ساجدا -أو كما قال- فأحمده بمحامد يفتحها علي، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تُشَفَّع، قال: فَيُحَدُّ لي حدا، فأدخلهم الجنة".
فتأمَّل كون هذه الشفاعة لم تقع إلا بعد السجود لله ودعائه وحمده والثناء عليه، وقوله:"فيحد لي حدا" فيه بيان أن الله هو الذي يحد له.
[سؤال الحي الحاضر والتوسل إلى الله بدعائه]
وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل هو من باب سؤال الحي الحاضر، والتوسل إلى الله بدعائه كما كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء كما في حديث الاستسقاء وغيره.
ولما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئا من ذلك البتة، ففرَّق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، -وهم أعلم الأمة وأفضلها- بين حالتي الحياة والممات. وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه، وفي الصلاة والخطب وعند ذكره امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجعلوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم"2.
[التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يجوز]
ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يستسقي بالناس، أخرج معه العباس بن
1 البخاري: التوحيد (7510)، ومسلم: الإيمان (193).
2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/ 367).
عبد المطلب رضي الله عنه فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا؛ فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، فيدعو. فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لما صلح منهم أن يعدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه العباس، فلما عدلوا عنه إلى العباس علم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يجوز في دينهم، وصار هذا إجماعا منهم.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-*: "وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك، فقال أبو الحسن القدوري -في شرح كتاب الكرخي- قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام. قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فتكره في قولهم؛ لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه.
وقال ابن بلدمي -في شرح المختار-: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا، هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب 1. فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع لقضاء حاجته، نقله درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له والطواف، وتقبيله
* النقل من "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" 1/ 216 - 218. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
1 لكن نقل الشافعي في "الأم" عن أبي يوسف: أن الحرام ما كان يطلق عند السلف إلا على ما كان بيِّنا في كتاب الله بلا تفسير، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"أن السلف ما كانوا يحرمون شيئا إلا بدليل قطعي". نقله عنه ابن مفلح في "الآداب الشرعية"، وذكر أن في مذهب أحمد روايتين في المسألة الثانية أن التحريم يثبت بالدليل الظني، أيضا. اهـ بالمعنى، ونحن نتبع السلف رضي الله عنهم.