الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجيب له، وأن المدعو ينكر ذلك الشرك ويتبرَّأ منه، ومن صاحبه يوم القيامة.
فمن تأمَّل هذه الآيات، انزاحت عنه بتوفيق الله وفتحه جميع الشبهات، ومما يشبه هذه الآية -في حرمان من أنزل حوائجه بغير الله، واتخذه شفيعا من دون الله بتوجيه قلبه وقالبه إليه، واعتماده في حصول الشفاعة عليه، كما قد تضمنه بيت الناظم- قول الله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.
[الشفاعة الشركية والشفاعة الشرعية بقيديها]
فانظر كيف حرمهم الله الشفاعة لما طلبوها من غيره، وأخبر أن حصولها مستحيل في حقهم بطلبها في دار العمل من غيره، وهذه هي الشفاعة التي نفاها القرآن كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 2. وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 3.
فهذه الشفاعة المنفية هي التي فيها شرك، وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فإنما ثبتت بقيدين عظيمين: إذن الرب تعالى للشفيع، ورضاه عن المشفوع له، وهو لا يرضى من الأديان الستة المذكورة في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} 4 الآية، إلا الإيمان الذي أصله وأساسه التوحيد والإخلاص، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 5، وقال:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 6، وقال:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 7، وقال تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 8 إلى قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 9.
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة البقرة آية: 254.
3 سورة الأنعام آية: 51.
4 سورة الحج آية: 17.
5 سورة البقرة آية: 255.
6 سورة الأنبياء آية: 28.
7 سورة النجم آية: 26.
8 سورة الأعراف آية: 54.
9 سورة يونس آية: 3.
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته قال: "وهي نائلة من شاء الله ممن مات لا يشرك بالله شيئا". وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: "من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه"1. قال شيخ الإسلام في هذا الحديث: "فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله".
وقد كشفنا -بحمد الله- بهذه الآيات المحكمات تلبيس هذا المعترض الملبس ولجاجه وافتراءه على الله ورسوله، فإن دعوة غير الله ضلال وشرك ينافي التوحيد، وإن اتخاذ الشفعاء إنما هو بدعائهم، والالتجاء إليهم، وسؤالهم أن يشفعوا للداعي، وقد نهى الله عن ذلك، وبيَّن أن الشفاعة له، فإذا كانت له وحده فلا تُطْلَب إلا ممن هي ملكه، فيقول: اللهم شفِّع نبيك في؛ لأنه تعالى هو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن يرضى دينه، وهو الإخلاص كما تقدم بيانه.
وأما قول المعترض: إن المعتزلة احتجُّوا بالآيات التي فيها نفي الشفاعة على أنها لا تقع لأهل الكبائر من الموحدين.
فأقول: لا ريب أن قولهم هذا بدعة وضلالة، وأنت أيها المجادل في آيات الله بغير سلطان مع المعتزلة في طرفي نقيض، تقول: إن الشفاعة تثبت لمن طلبها وسألها من الشفيع، فجعلت طلبها منه موجبا لحصولها، والقرآن قد نفى ذلك وأبطله في مواضع كثيرة -بحمد الله-، والحق أنها لا تقع إلا لمن طلبها من الله وحده، ورغب إليه فيها، وأخلص له العبادة بجميع أنواعها.
وهذا هو الذي تقع له الشفاعة قبل دخول النار أو بعده إن دخلها بذنوبه، فهذا هو الذي يأذن الله للشفعاء أن يشفعوا له بما معه من الإخلاص كما صرحت بذلك الأحاديث، والله أعلم.
وقد قدمنا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة أن ما في القرآن من ذكر الشفاعة نفيا
1 البخاري: العلم (99) والرقاق (6570) ، وأحمد (2/ 373).