الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونفي الكيفية عنها؛ لأن الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وعلى هذا مضى السلف كلهم.
ولو ذهبنا نذكر ما اطَّلعْنا عليه من كلام السلف في ذلك لخرج بنا عن المقصود في هذا الجواب، فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفى بما قدمنا، ومن كان قصده الجدال والقيل والقال والمكابرة لم يزده التطويل إلا ضلالا، والله الموفق للصواب.
فصل
{في إنكار الزَّيْدِي صفة العلو والفوقية لله تعالى، والرد عليه}
وأما قوله: (وأنت -أيضا- قد ناقضت كلامك بكلامك؛ حيث قلت: وذلك مثل وصف نفسه تبارك وتعالى بأنه فوق السماوات مستوٍ على عرشه. فقد فسرت كتاب الله، وأثبتَّ له صفة وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم، وليست الفوقية مذكورة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1).
(فالجواب) أن يقال: قد ذكرنا أن تفسير الصفات -الذي نفيناه في كلامنا، وذكرنا نفيه عن السلف- هو تأويل آيات الصفات وأحاديثها بتأويلات الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة، الذين يفسرون الاستواء بالاستيلاء والفوقية بالقهر، واليد بالنعمة، وما أشبه ذلك. ويفسرونها بتفسير المُشَبِّهَة، الذين يقولون: استوى كاستواء المخلوق على سريره، ويفسرون اليد بالجارحة كجارحة المخلوق.
فكل هذا من التفسير المردود المُبْتَدَع المُحْدَث في الدين، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف بإسناد صحيح ولا ضعيف، حتى إن المخالفين لهم في ذلك يقرون بأن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها إمرارها كما جاءت، من غير تعرض لتفسير أو تأويل، مع نفي التشبيه عنها، ويقولون: هذا أسلم.
وأما مذهب الخلف فهو تأويلها وتفسيرها بما يليق بالله -سبحانه-، فحصل الاتفاق من الموافق والمخالف على أن مذهب السلف ما ذكرنا، ولله الحَمْدُ والمِنَّة.
1 سورة طه آية: 5.
وأما وصف الرب بالفوقية فقد صرحت الآيات الكريمات بذلك، وكذلك الأحاديث الثابتة المتواترة، وأجمعت عليه الأمم عربهم وعجمهم؛ لأن الله فَطرَهم على ذلك، إلا من شذّ واجتالته الشياطين عن فطرته التي فطره الله عليها، وهذا كتاب الله -تعالى-، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعامة كلام الصحابة والتابعين، ثم عامة كلام سائر الأمة مملوء بما هو؛ إما نص، وإما ظاهر، في أن الله هو العليّ الأعلى، وأنه فوق كل شيء، وأنه عالٍ على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، مثل قوله:{لَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 1، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2 {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 3، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 4، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 5، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 6 في ستة مواضع، إلى أمثال ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة.
يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر، ولا أحد من سلف الأمة: هذه الأحاديث والآيات لا تعتقدوا ما دلت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضي مقاييسكم؛ فإنه الحق، وما خالفه فلا تعتقدوه وانفوه.
ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرا لهم في أصل دينهم؛ لأن مردَّهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم شقاء وضلالا. ونحن لم نصف الله بالفَوقية، وإنما هو -سبحانه- هو الذي وصف نفسه بذلك، فبطل قول المعترض، وكلامه صريح بأنه اتبع ما قاله الله ورسوله، وأن الله هو الذي وصف نفسه بذلك.
وأما قوله: "فقد فسرت كتاب الله". فهذا كذب وافتراء على المجيب، يعرفه كل منصف لبيب، وهذا المعترض لا يستحي من كثرة الكذب، نعوذ بالله من ارتكاب الهوى، والتعصب على الباطل، اللذين يصدان عن اتباع الحق وإرادته.
وقوله: "وأثبت لله صفة وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم". كذب ظاهر؛ لأن إثبات الفوقية لا يلزم منه ذلك عند من قال به، والله سبحانه وتعالى أعلم من خلقه بما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، يردون ما جاء
1 سورة فاطر آية: 10.
2 سورة آل عمران آية: 55.
3 سورة الملك آية: 16.
4 سورة المعارج آية: 4.
5 سورة النحل آية: 50.
6 سورة الأعراف آية: 54.