الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انقراض الدولة الأموية، وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأن كثيرا من أهل الشام -من العلماء وغيرهم- يبغضون أئمة الجور من بني أمية، ويطلقون ألسنتهم بذمهم والطعن عليهم. وقد تقدم كلام الذهبي في مَرْوَان وابنه عبد الملك قريبا.
ولو ذهبنا نذكر كلام علماء الشام -من المتقدمين والمتأخرين- في ذم بني أمية والطعن عليهم لطال الكلام جدا، وليس هذا الجواب محل التطويل والبسط، فمن أراد ذلك فلينظر في كتب القوم حتى يتبين له جهل هذا المعترض وتخبيطه في كلامه بما تَمُجّه الأسماع، وتنبو منه الطباع. والله أعلم.
فصل
[جدل المعترض في صفات الله تعالى، والرد عليه]
وأما قول المعترض: (قولك: "ونقر بها ونعلم أنها صفات". فإما أن تجعل الواو عاطفة في قولك: "ونعلم"، أو تكون جملة أخرى منفصلة، فما معنى الإقرار بها؟ هل المراد الإقرار بمتونها أو كلماتها، أو كونها من عند الله جل وعلا؟ فالمسلمون جميعا مثلك، ولا يخالفك أحد من المسلمين، فما فائدة إخبارك بأنك تقر بها؟ وإن أردت بالواو أنها للحال، أي: نقر بها حال كونها صفات.
فإما أن تريد بها قول الواصف فلا معنى لذلك، وتريد أنها تضمنت معنى خاصا للموصوف، أو أنها لفظ دلَّ على ذات باعتبار معنى هو المقصود كما ذكره ابن الحاجب؟ وهذان التعريفان قد ذكرهما العلماء اصطلاحا وتعريفا في محاورتهم.
فإن ترد أنها تدل على معنى زائد على الذات لزمك ما لزم الأَشَاعِرَة، وهو أن يكون مع الله قدماء، وهي المعاني التي لحقت ذاته -تعالى- بالوصف، ونحن نبرأ من هذا نحن وأنت.
وإن ترد أن الصفة دلت على معنى لذاته -تعالى-، وتغمض عن كيفيته وتصوره في الذهن بأي كيفية، وهذا هو المفهوم من كلامك، فلا تساعدك لغة العرب؛ لأن الصفات قوالب لمعاني مفهومة معقولة مبينة للموصوف معينة له، فقد جزمت بأنها غير مكيفة، كما يفهم من كلامك أيضا مع
مخالفة لغة العرب ولزمك التجسيم.
أما مخالفة لغة العرب فلا يجوز لك أن تخالفها وتفسر كتاب الله -جل وعلا- بغيرها؛ لمخالفتك لما أنزل الله فيه، وقد قال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1 وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2 إلى غير ذلك من الآيات.
فهل يجوز لك أن تقول: استوى بلا كيف بعد أن قال مبين، وقال:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3؟ ما كأنك إلا قلت: ما تبين لنا ولا عقلناه، فخاطبنا ربنا بما لا نتبينه ولا نعقله، وليس هو من جنس لغة العرب ولو كان عربيا لتبين لنا وعقلناه.
ووجه المخالفة على التحقيق أن كلمات كتاب الله -تعالى- على مقتضى لغة العرب، مبينة مفهومة، فلا بد أن تدل الكلمة على معنى حقيقي أو مجازي على مقتضى استعماله، فنقول لك: قد صرحت بأن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 دلّ على الاستواء على العرش، كما فهمناه من كلامك وخطابك. ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على بعض، تعالى الله عن ذلك.
فهذا حقيقته عند العرب، فلما أن خشيت لزوم التجسيم في حق الباري، ولجأت إلى التنْزيه له -تعالى-، فلم تجد مهربا، وتوحشت من هذا الأمر الشنيع؛ لفطرة التعظيم لربك -جل وعلا-، فلم تجد إلى الهرب سبيلا إلا بالبَلْكَفَة التي قد تستر بها مشايخك، فقلت: استوى بلا كيف، واستأنست بذلك الطيف.
فلما ظننت إنك قد حفظت نفسك من التجسيم قلنا لك: هل تقول العرب استوى، أي: جلس جلوسا غير مكيف -بتعطيف الأرجل- ولا مستقر ونحو ذلك، حيث يريدون حقيقة الاستواء والجلوس؟
فإن كان هذا من روايتك عن العرب، وأنهم يطلقون على ما أردت من عدم الكيف ما ذكرناه لك، وهيهات، فلن تستطيع له طلبا.
وإن لم يكن، قلنا لك: يا هذا، قد خالفت القرآن العربي المبين، وفسرته بلسان قومك الذين تستروا بالبَلْكَفَة، ولم يستروا عوراتهم، ولم تخرج عن شبهة
1 سورة الشعراء آية: 193 - 194.
2 سورة الزخرف آية:1: 3.
3 سورة الزخرف آية:1: 3.
4 سورة طه آية: 5.
التجسيم، إذ قد أثبت لله تعالى الاستواء فوق العرش، وأقررت بذلك الحدث واعتقدته له -تعالى-، وهو يستلزم التجسيم عقلا ولغة، فإن العقل -أولا- يحكم بالذات، وبأن هذا الحدث -وهو الاستواء- لا يكون إلا من جسم قبل أن تلتفت إلى كيفيته.
وكذلك اللغة، فإن مفهوم الاستواء الحدث، وقد فسروا الحدث بالأثر أو مؤثره على خلاف بين اللغويين، وقد حكمت على الله ووصفته بالاستواء، وجعلته -تعالى- محلا له كما هو قاعدة الصفة، ولم تقدر أن تخرجه عن الحدث وتجعله غير الحدث بعد أن أقررت بالاستواء الذي هو غير الحدث كما عرفناك، فلزمك أن يكون الله -تعالى- محلا للاستواء، والمحل لا يكون إلا جسما.
إلى قوله: وقد كان له مندوحة عن هذا، وتخلص كما تخلص أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على المجاز، وإخراجها عن الحقائق، التي أوقعته في المضايق، ولم يسعه بعد ذلك إلا أضغاث أحلام ظن بها أنها أخرجته إلى التنْزيه ولم تفده، فلو أخرجها إلى المجاز المأنوس المألوف في لغة العرب المنادي بفصاحة كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل والتنْزيه لله -تعالى- على الطريق اللائق بجلاله الأعدل، لكان مناسبا لكمال إعجازه والرد إلى محكمه على وجه أبلغ من الحقيقة، وأسلم من التستر بالبَلْكَفَة التي كشفت ضعف كلامه وسخفه).
[الوجه الأول في الرد على شبهات المعترض]
(فالجواب) أن يُقال: الواو عاطفة، والمعنى نقر بها بألسنتنا ونعلم أنها صفات لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته وكبريائه، وإن رغمت أنوف أهل البدع والضلال.
فقوله: "فما معنى الإقرار بها؟ هل المراد الإقرار بمتونها وكلماتها؟ " فذلك هو مراد المجيب، مع اعتقاد أنها صفات لله -تعالى- لا تشبه صفات المخلوقين. فهذا معنى قول المجيب: ونعلم أنها صفات لله تبارك وتعالى، فالواو الأولى عاطفة، والثانية حالية أي نقر بها حال كوننا نعلم أنها صفات لله، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
[الوجه الثاني: المؤمن يخبر بإيمانه بالله ورسوله وإقراره بأصول الدين]
(الوجه الثاني): قوله: "فالمسلمون جميعا مثلك، ولا يخالفك أحد من المسلمين،
فما فائدة إخبارك بأنك تقر بها؟ ".
فنقول: هذا يدل على جهله، فإن المؤمن يخبر بإيمانه بالله ورسوله، وإقراره بأصول الدين التي هي أشهر وأعظم من هذه المسألة، كالشهادتين وغيرهما من الأصول العظيمة.
ولا يقال: إن ذلك يعرفه المسلمون كلهم، ولهذا شُرع الأذان دائما، وتكراره دائما كل وقت، وشُرع للرجل إذا فرغ من الوضوء أن يقول:"أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". وأن يقول إذا صلى: "لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن" وأمثال ذلك كثير.
[الوجه الثالث: وجوب الإيمان بما جاء عن الله ورسوله كما جاء]
(الوجه الثالث): قوله: "فأما أن تريد بها قول الواصف ولفظه". فلا معنى لذلك، أو تريد أنها تضمنت معنى حاصلا للموصوف، أو أنها لفظ دلّ على ذات باعتبار معنى هو المقصود كما ذكره ابن الحاجب؟ فمراد المجيب أنها تدل على معنى حاصل للموصوف على ما أراده الله ورسوله كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه:"آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت بما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله".
وذلك أنه يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة المعلومة جملة وتفصيلا، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم جملة، وذلك هو تحقيق "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".
فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله عز وجل من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ووعده ووعيده، وأمره ونهيه، وخبره عما كان وما يكون، فإن هذا هو حقيقة الشهادة له بالرسالة، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو متفق عليه بين الأمة.
إذا تقرر هذا فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أُخبر به عن الله من أسمائه وصفاته مما جاء في القرآن، وفي السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه.
(الوجه الرابع): قوله: "فإن ترد أنها تدل على صفات زائدة على الذات لزمك ما لزم الأَشَاعِرَة، وهو أن يكون مع الله قدماء، وهي المعاني التي لحقت ذاته تعالى بالوصف، ونحن نبرأ من هذا نحن وأنت". فيقال: أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله تبارك وتعالى موجود كامل بجميع صفاته، فإذا قال القائل:"دعوت الله" أو "عبدت الله"، كان اسم الله متناولا للذات المتضمنة لصفاتها، ليس اسم الله اسما للذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها، وحقيقة ذلك أنه لا يكون نفسه إلا بنفسه، ولا يكون ذاته إلا بصفاته، ولا يكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها، وهذا حق.
ولكن قول القائل: إنه يلزم أن يكون مع الله قدماء، تلبيس. فإن ذلك يشعر أن مع الله قدماء غيره منفصلة عنه، وهذا لا يقوله إلا من هو أكفر الناس وأجهلهم بالله كالفلاسفة؛ لأن لفظ الغير ُيراد به ما كان مفارقا له بوجود أو زمان أو مكان، ويُراد به ما أمكن العلم دونه.
فالصفة لا تسمى غيرا له، فعلى المعنى الأول يمتنع أن يكون معه غيره، وأما على المعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات، وأن يكون مستلزما لصفات لازمة له، وإثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منها لكل عاقل، ولا خروج عن ذلك إلا بجحد وجود الموجودات مطلقا.
وأما من جعل وجود العلم هو وجود القدرة، ووجود القدرة هو وجود الإرادة، فطرد هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى، وهذا منتهى الاتحاد، وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد، ولا مُخَلِّصَ من هذا إلا بإثبات الصفات، مع نفي مماثَلة المخلوقات، وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وذلك أن نُفاة الصفات -من المتفلسفة ونحوهم- يقولون: إن العاقل والمعقول، والعاشق والمعشوق، واللذة واللذيذ والملتذ هو شيء واحد، وأنه موجود واجب له عناية، ويفسرون عنايته بعلمه أو عقله، ثم يقولون: وعلمه أو عقله هو ذاته، وقد يقولون: إنه حي عليم قدير، مريد متكلم، سميع بصير.
ويقولون: إن
ذلك شيء واحد، فإرادته عَيْنُ قدرته، وقدرته عين علمه، وعلمه عين ذاته؛ وذلك لأن من أصلهم أنه ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته؛ إما سلبية، كقولهم:"ليس بجسم، ولا متحيز، ولا جوهر، ولا عرض". وإما إضافة، كقولهم:"مبدأ وعلة". وإما مؤلف منهما، كقولهم:"عاقل ومعقول وعقل".
ويعبرون عن هذه المعاني بعبارات هائلة، كقولهم: إنه ليس فيه كثرة "كم" ولا كثرة "كيف"، وإنه ليس له أجزاء "حد" ولا أجزاء "كم"، أو إنه لا بد من إثبات واحد موحدا توحيدا منَزها عن المقولات العشر، عن الكم والكيف والأين والوضع والإضافة، ونحو ذلك.
ومضمون هذه العبارات وأمثالها نفي صفاته التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يسمون نفي الصفات توحيدا، وكذلك المُعْتَزَلَة ومن ضاهاهم من الجَهْمِيَّة يسمون ذلك توحيدا، وهم ابتدؤوا هذا التعطيل الذي يسمونه توحيدا، وجعلوا اسم التوحيد واقعا على غير ما هو واقع عليه في دين المسلمين.
فإن التوحيد -الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه- هو أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1.
ومن تمام التوحيد أن يوصف الله -تعالى- بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، فيصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل، كما قال تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ?} 2.
ومن هنا ابتدع من ابتدع لمن اتبعه على نفي الصفات اسم الموحدين، وهؤلاء منتهاهم أن يقولوا: هو الوجود بشرط الإطلاق، كما قاله طائفة منهم، أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما قاله ابن سينا وأتباعه، أو يقولون: هو الوجود المطلق لا بشرط، كما يقوله القونوي وأمثاله، ومعلوم بصريح العقل -الذي لم يكذب قط- أن هذه الأقوال متناقضة باطلة من وجوه:
(أحدها): أن جعل عين العلم عين القدرة، ونفس القدرة هي نفس الإرادة،
1 سورة الأنبياء آية: 25.
2 سورة الإخلاص آية: 1: 4.
ونفس الحياة هي نفس العلم، ونفس العلم نفس الفعل، ونفس الحياة هي نفس العلم والإبداع، ونحو ذلك معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن هذه حقائق متنوعة، فإن جعلت هذه الحقيقة هي تلك كان بمنْزلة من يقول: أن حقيقة السواد حقيقة البياض، وحقيقة البياض حقيقة الطعم، وحقيقة الطعم حقيقة اللون.
وأمثال ذلك مما يجعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة فمن قال: إن العلم هو المعلوم، والمعلوم هو العلم فَضَلالُه بيِّن، فالتمييز بين مسمى المصدر ومسمى اسم الفاعل واسم المفعول، والتفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فِطَر الناس وعقولهم، وفي لغات جميع الأمم، ومن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى بما لا يخفى فساده على من تصور ما يقول.
فمن قال: إن ذاته تعرف بدون معرفة شيء من أسمائه وصفاته الثبوتية والسلبية، فقوله معلوم البطلان، ممتنع وجود ذلك في الأعيان. ولو قدر إمكان ذلك، وفرض العبد في نفسه ذاتا مجردة عن جميع القيود السلبية والثبوتية فليس ذلك معرفة بالله البتة، وليس رب العالمين ذاتا مجردة عن كل أمر سلبي أو ثبوتي، ولهذا كان كثير من الملاحدة لا يصلون إلى هذا الحد، بل يقولون كما يقول أبو يعقوب السجستاني وغيره من الملاحدة: نحن لا ننفي النقيضين، بل نسكت عن إضافة واحد منهما إليه، فلا نقول هو موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل. فيقال لهم: إعراض قلوبكم عن العلم به، وكف ألسنتكم عن ذكره لا يوجب أن يكون هو في نفسه مجردا عن النقيضين، بل يفيد كفركم بالله وكراهتكم لمعرفته وذكره وعبادته، وهذا حقيقة مذهبكم.
[الوجه الخامس: إثبات أهل السنة لذات الله وصفاته وتنزيههما]
(الوجه الخامس): أن يقال: مذهب أهل السنة والجماعة ومن تبعهم بإحسان أن كل ما وَصَف به الرب نفسه من صفاته فهي صفات مختصة به، غير مخلوقة بائنة منفصلة عنه، بل يمتنع أن يكون له فيها مشارك أو مماثل، فإن ذاته المقدسة لا تماثل شيئا من الذوات، وكذلك صفاته المختصة به لا تماثل شيئا من الصفات؛ لأنه -سبحانه- أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فاسمه الأَحَد دلَّ على نفي المشاركة والمماثلة، واسمه الصَّمَد دلَّ على أنه مستحق لصفات الكمال.
والمقصود هنا أن صفات التنْزيه يجمعها هذان المعنيان المذكوران في هذه السورة:
(أحدهما): نفي النقائص عنه، وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال، فمن ثبت له الكمال التام انتفى عنه النقصان المضاد له، والكمال من مدلول اسمه الصَّمَد.
(والثاني): أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة، وهذا من مدلول اسمه الأَحد.
فهذان الاسمان العظيمان -الأَحد، الصَّمد- يتضمنان تنْزيهه عن كل نقص وعيب، وتنْزيهه في صفات الكمال أن يكون له مماثل في شيء منهما.
فالسورة تضمنت كل ما يجب نفيه عن الله، وتضمنت كل ما يجب إثباته لله من وجهين؛ من جهة اسمه "الصَّمد"، ومن جهة أن ما نُفي عنه من الأصول والفروع والنظير استلزم ثبوت صفات الكمال؛ فإن كل ما يمدح به الرب تبارك وتعالى من النفي فلا بد أن يتضمن ثبوتا، بل وكذلك كل ما يُمدح به شيء من الموجودات من النفي فلا بد أن يتضمن ثبوتا، وإلا فالنفي المحض معناه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، فضلا عن أن يكون صفة كمال.
وهذا كما يذكر -سبحانه- في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 1، فنفي أخذ السنة والنوم له مستلزم لكمال حياته وقيوميته، فإن النَّوم أخو الموت، ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون.
ثم قال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2، فنفي الشفاعة بدون إذنه مستلزم لكمال ملكه، إذ كل من يشفع إليه شافع بلا إذنه، فقبل شفاعته كان منفعلا عن ذلك الشافع، قد أثرت شفاعته فيه، فصيرته فاعلا بعد أن لم يكن، وكان ذلك الشافع شريك المشفوع إليه في ذلك الأمر المطلوب بالشفاعة إذا كان بدون إذنه، لا سيما والمخلوق إذا شفع إليه بغير إذنه فقبل الشفاعة فإنما يقبلها لرغبة أو لرهبة، إما من الشافع وإما من غيره.
وإلا فلو كانت داعيته من تلقاء نفسه، تامة مع القدرة لم يحتج إلى شفاعته، والله -تعالى- مُنَزَّه عن ذلك كما قال في الحديث الإلهي:"إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نَفْعِي فتنفعوني" 3 ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالشفاعة إليه إذا أتاه طالب حاجة يقول: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على
1 سورة البقرة آية: 255.
2 سورة البقرة آية: 255.
3 مسلم: البر والصلة والآداب (2577).
لسان نبيه ما شاء"1.
أخرجاه في الصحيحين، وهو إنما يفعل ما أمر الله به. ثم قال:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 2، بيَّن أنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة:{لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} 3؛ فكان في هذا النفي إثبات أنه عالم، وأن عباده لا يعلمون إلا ما علمهم إياه، فأثبت أنه الذي يعلمهم لا ينالون العلم إلا منه، فإنه الذي خلق الإنسان من علق، وعلَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم.
ثم قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} 4 أي: لا يثقله ولا يكربه، وهذا النفي يتضمن كمال قدرته، فإنه -مع حفظه السماوات والأرض- لا يثقل ذلك عليه كما يثقل على من في قوته ضعف، وهذا كقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 5 فنَزَّه نفسه عن اللغوب. قال أهل اللغة: "اللغوب" هو الإعياء والتعب.
وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 6 والإدراك -عند السلف والأكثرين- هو الإحاطة، وقالت طائفة: هو الرؤية، وهو ضعيف؛ لأن نفي الرؤية لا مدح فيه، فإن العدم لا يرى، وكل وصف لا يشترك فيه الوجود، والعدم لا يستلزم أمرا ثبوتيا، ولا يكون فيه مدح، إذ هو عدم محض بخلاف ما إذا قيل: لا يحاط به، فإنه يدل على عظم الرب جل جلاله، وأن العباد -مع رؤيتهم له- لا يحيطون به رؤية، كما أنهم -مع معرفتهم- لا يحيطون به علما، وكما أنهم -مع مدحهم له، وثنائهم عليه- لا يحصون ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه المقدسة، كما قال أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم:"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"7.
[الوجه السادس: صفات الله ليست عينا له ولا غيرا مباينا له]
(الوجه السادس): أن يقال: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك"8 أخرجاه في الصحيحين، وهذا مما يدل على تغاير صفات الله؛ لأنه استعاذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، فدلَّ ذلك على أن الرضى غير السخط، والمعافاة غير العقوبة، ومن جعل نفس إرادته هي رحمته وهي غضبه يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"أعوذ برضاك من سخطك"9 عنده أنه استعاذ بنفس الإرادة منها، وهذا ممتنع؛ فإنه ليس عنده للإرادة صفة ثبوتية
1 البخاري: الزكاة (1432)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2627)، والنسائي: الزكاة (2556)، وأبو داود: الأدب (5131) ، وأحمد (4/ 400 ،4/ 413).
2 سورة البقرة آية: 255.
3 سورة البقرة آية: 32.
4 سورة البقرة آية: 255.
5 سورة ق آية: 38.
6 سورة الأنعام آية: 103.
7 مسلم: الصلاة (486)، والترمذي: الدعوات (3493)، والنسائي: التطبيق (1100 ،1130)، وأبو داود: الصلاة (879)، وابن ماجه: الدعاء (3841) ، وأحمد (6/ 58)، ومالك: النداء للصلاة (497).
8 مسلم: الصلاة (486)، والترمذي: الدعوات (3493)، والنسائي: التطبيق (1100 ،1130) والاستعاذة (5534)، وأبو داود: الصلاة (879)، وابن ماجه: الدعاء (3841) ، وأحمد (6/ 58)، ومالك: النداء للصلاة (497).
9 مسلم: الصلاة (486)، والترمذي: الدعوات (3493)، والنسائي: التطبيق (1100 ،1130) والاستعاذة (5534)، وأبو داود: الصلاة (879)، وابن ماجه: الدعاء (3841) ، وأحمد (6/ 58)، ومالك: النداء للصلاة (497).
يستعاذ بها من أحد الوجهين باعتبار ذلك الوجه منها باعتبار الوجه الآخر، بل الإرادة لها عنده مجرد تعلق بالمخلوق، والتعلق أمر عدمي، وهذا بخلاف الاستعاذة به منه؛ لأن له صفات متنوعة، فيستعاذ به باعتبار ومنه باعتبار.
ومن قال: إنه ذات لا صفة لها، أو وجود مطلق لا يتصف بصفة ثبوتية. فهذا يمتنع وجوده في الخارج، وإنما يمكن تقدير هذا في الذهن كما تُقَدَّر الممتنعات، فضلا عن كونه يكون ربا خالقا للمخلوقات.
وهؤلاء إنما ألجأهم إلى هذا مضايقات الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة لهم في مسائل الصفات، فإنهم صاروا يقولون: كلام الله هو الله أو غير الله؟ فإن قلتم: هو غيره. فما كان غير الله فهو مخلوق، وإن قلتم: هو هو، فهو مكابرة، وهذا أول ما احتجوا به على الإمام أحمد رحمه الله في المحنة، فإن المعتصم لمّا قال لهم: ناظروه. قال له عبد الرحمن ابن إسحاق: ما تقول في القرآن، أو قال: في كلام الله، أهو الله أو غيره؟ فقال له أحمد: ما تقول في علم الله، أهو الله أو غيره؟
فعارض أحمد بالعلم فسكت، وهذا من حسن معرفة أبي عبد الله رحمه الله بالمناظرة، فإن المبتدع بنَى مذهبه على أصل فاسد، متى ذكرتَ له الحق الذي عندك ابتداء أخذ يعارضك فيه لما قام بنفسه من الشبهة.
فينبغي -إذا كان المناظر مدَّعيا أن الحق معه- أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق أُعطيه، وإلا فما دام معتقدا نقيض الحق لم يدخل الحق أذن قلبه، كاللوح الذي كُتب فيه كلام باطل، فامْحُه أولا ثم اكتب فيه الحق، فهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم، فذكر لهم أحمد من المعارضة والنقض ما يبطلها.
وقد تكلم أحمد -في ردِّه على الجَهْمِيَّة- في جواب هذا، وبين أن لفظ "الغير" مجمل، يراد بالغير ما هو منفصل عن الشيء، ويراد بالغير ما ليس هو الشيء، فلهذا لا يطلق القول بأن كلام الله وعلمه ونحو ذلك هو هو؛ لأن هذا باطل، ولا يطلق أنه غيره؛ لئلا يُفهم أنه بائن عنه، منفصل عنه كما رواه الخَلَّال رحمه الله قال: أخبرني الخضر ابن المثنى الكندي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: هذا ما أخرجه أبي رحمه الله في الرد على الزَّنَادِقَة والجَهْمِيَّة فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته غير تأويله. فقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: