الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالإيمان قالوا لفرعون لعنه الله: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} 1.
واعلم أن حقيقة حال هؤلاء المشبهة أن الله تعالى أمر بقتال المشركين فقاتلوا معهم، وأمرهم بالبعد عنهم فآووهم وقربوا منهم، وأمر بمعاداتهم فوالوهم، وأمرهم ببغضهم فوادوهم، وأمرهم بأن ينصروا أهل الإسلام فاستنصروا بالكفرة عليهم، ونهوا عن مداهنتهم فداهنوهم.
ونهاهم عن كتمان ما أنزل الله من هذا وغيره فكتموه وشبهوا كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} 3 الآية. فجمعوا بين الكتمان والرد على من بين ولم يكتم، والتشبيه والجدال بالباطل، فتركوا ما أوجب الله عليهم وارتكبوا ما حرم عليهم. وهذا ظاهر جدا لا يرتاب فيه من له أدنى معرفة بالناس وما وقع منهم، فلا يأمنهم ويقربهم بعد هذه العظائم إلا من سفه نفسه.
[شبهة استئجار أبي بكر لعبد الله بن أريقط، والرد عليها]
ولهم شبهة أخرى، وهي أن أبا بكر استأجر عبد الله بن أريقط في طريق الهجرة إلى المدينة وكان هاديا خِرِّيتا يدلهم على الطريق، فأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبته؛ فتكون صحبة العسكر وإعانتهم على المسلمين ونصرتهم لا بأس بها.
فيقال: (أولا): قد ذكرت في الشبهة التي قبل هذه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين"4 وهذا يناقض ما استدللت به هنا، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من صاحب عمل وهو يفعله، ومثل هذا قوله:"من جامع المشرك أو ساكنه فهو مثله"5. والآيات المحكمات صريحة في التحذير من موالاتهم ناطقة بالوعيد الشديد على موادتهم ونصرتهم.
إذا عرف هذا فالفرق بين الدليل والمدعى أبعد مما بين المشرق والمغرب
1 سورة طه آية: 72.
2 سورة البقرة آية: 174.
3 سورة البقرة آية: 174.
4 الترمذي: السير (1604)، وأبو داود: الجهاد (2645).
5 أبو داود: الجهاد (2787).
وذلك أن ابن أريقط أعان رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبر البر بعد الإسلام، وأفرض الفرائض بعد الإيمان، وسعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مصالحه التي يتوصل بها إلى رضاء مولاه، ومراغمة أعدائه.
ولا ريب أن هذا لو صدر من ابن أريقط بنية لكان من أفضل الأعمال، فإذا أسلم كتب له ذلك من أفضل حسناته على حديث حكيم:"أسلمت على ما أسلفت من خير"، بخلاف من آوى المشركين ورضي بهم بدلا من المسلمين وأعانهم، واستنصر بهم وفرح بنصرهم وظهورهم، ودعا الناس إلى متابعتهم.
فالفرق بين الفعلين كالفرق بين فعل أبي طالب من النصرة والحياطة والحماية، وفعل أبي جهل وعقبة بن أبي مُعيط والنضر بن الحارث، فلو أسلم أبو طالب لكان فعله من أعظم القربات، وفعل أبي جهل وأمثاله من أعظم الكفر الموصل إلى الدركات في العذاب وحلول المثُلات، فأين من أعان الباطل ووادّ أهله ونصرهم وظاهَرهم ممن أعان المسلمين وسعى في مصالحهم وراغم عدوهم؟
سارت مشرقّة وسرت مغرّبا
…
شتان بين مشرّق ومغرّب
فابن أُريقط فعل خيرا جره إلى الإسلام كما جر سراقة بن مالك، وقد فعل من النصيحة في حال كفره ما يحمد به باطنا وظاهرا، بخلاف من والى المشركين ونصح لهم فإنه قد وقع في الوعيد والسخط والمقت وفساد الدين، ومفارقة المؤمنين، والله أعلم بما يؤول إليه حال أعيان أولئك الضُلَّال، لكنه يخشى عليهم أن يصيبهم مثل ما قصه الله في شأن بلعام، وكذلك أهل مسجد الضرار، وقد كانوا قبل ذلك في عداد الأنصار. فيا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على الإيمان.
ولا ريب أن عدول هذا المستدل عن الآيات المحكمات وصحيح الأخبار ترك للمحكم واتباع للمتشابه، وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} 1 الآية. وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعا "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2.
وحاصل ما قدمنا من الجواب على ما أورده المشبه هنا يتضمن خمسة أوجه:
(الأول): أن ابن أريقط أجير ومن شأن الأجير أن يخدم المستأجر؛ لأنه ملك منافعه بعقد الإجارة، والأجير تحت المستأجر.
(الوجه الثاني): أن ذلك مستأجر في مصلحة دينية هي من أكبر مصالح الدين، فإعانته للمسلم وقت الحاجة إليه لا محذور فيها لكونها مصلحة محض، فكيف يجوز أن يستدل بذلك على ما هو أعظم المفاسد في الدين من موالاة المشركين وإعانتهم على باطلهم والصد عن سبيل الله؟
شتان بين الحالتين فمن يرد
…
جمعا فما الضدان يجتمعان
(الوجه الثالث): أن استئجار الكافر للمصلحة نظير استرقاق الكافر، وذلك جائز بخلاف العكس، فإنه لا يجوز؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. وهذا المشبه كأمثاله صاروا لأهل مصر 3 كالمماليك في طاعتهم، ومتابعتهم، وإعانتهم اختيارا منهم لا اضطرارا.
(الوجه الرابع): أن ما فعله ابن أريقط لا يعاب عليه عقلا ولا شرعا بل قد يثاب عليه في حال كفره في الدنيا، وربما صار سببا لإسلامه لقربه من الإسلام بإعانة أهله على طاعة ربهم، بخلاف من أعان على معصية الله والصد عن سبيله، فأين من كان مع أهل الحق ممن كان مع عدوهم؟ وهل سمعت بتفاوت أعظم من هذا التفاوت؟
والله ما اجتمعا ولن يتلاقيا
…
حتى تشيب مفارق الغربان
1 سورة آل عمران آية: 7.
2 البخاري: تفسير القرآن (4547)، ومسلم: العلم (2665)، والترمذي: تفسير القرآن (2994)، وأبو داود: السنة (4598) ، وأحمد (6/ 124 ،6/ 256)، والدارمي: المقدمة (145).
3 المراد من أهل مصر الجنود الذين قاتلوا جماعة المؤلف وكانوا من شعوب مختلفة وأصل الكلام في الذين ساعدوهم من أهل الحجاز وغيرهم.
(الوجه الخامس): أن ما فعله ابن أريقط يغيظ كفار قريش، وإغاظة الكفار يحبها الله تعالى، بخلاف من يفعل معهم ما يسرهم ويغيظ عدوهم من المؤمنين، فأين هذا من هذا لو كانوا يعلمون؟
والبصير يعلم أن هذا التشبيه من هؤلاء على العوام صد لهم عن سبيل الله، وأنه من آثار عقوبة تلك الأعمال.
اللهم إنا نعوذ بك أن نفتن عن ديننا، وأن نرد على أعقابنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما.
وهذا آخر ما تيسر جمعه، والله أسأل أن يعمم بنفعه
أملاه وجمعه الفقير إلى الله تعالى عبده عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وكتبه الفقير إلى الله عبده علي بن عبد الله البواردي
وذلك في سنة 1261 من هجرته صلى الله عليه وسلم
وكتبه من قلم كاتبه حرفا بحرف عبده الفقير إليه عبد الله بن إبراهيم الربيعي
وذلك في 25 صفر سنة 1346 وصلى الله على محمد
وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا
آمين