الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا وعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل من الخبائث ما حرم الله علينا. فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال جعفر: نعم، فقال له النجاشي: اقرأه علي، فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص} قالت: فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى لَيخرج من مِشكاة واحدة، انطلقا فلا -والله- لا أسلمهم إليكم ولا أكاد" ثم ساقت القصة.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رُومان عن عروة عن عائشة قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث: أنه لا يزال على قبره نور. انتهى.
(قلت): وقد أنزل الله في النجاشي وأصحابه آيات في سورة المائدة من قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} 1 إلى قوله: {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} 23.
وكل من له أدنى معرفة لا يفهم من هذه القصة إلا أنها حجة عظيمة على الهجرة الواجبة من وجوه لا تخفى على البليد، اللهم إلا من ابتلي بسوء الفهم وفساد التصور وكابر العقل والشرع فلا حيلة فيه، يا ربنا نسألك الثبات على الإسلام.
[حال المسلم الذي يقيم بين المشركين المعادين للإسلام]
وأورد أيضا حديث: "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما"4، والحجة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه مسلما، فيفيدان إقامته بين أظهر المشركين لا تخرجه عن الإسلام.
1 سورة المائدة آية: 82.
2 سورة المائدة آية: 82.
3 الغاية التي ذكرها سهو فإن الآيات الثلاث التي بعدها فيهم أيضا.
4 الترمذي: السير (1604)، وأبو داود: الجهاد (2645).
(فالجواب): أن براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن جلس بين ظهرانيهم إنما كان عقوبة له على مجرد الإقامة بين أظهرهم. وأما إيواؤهم ونقض العهد لهم ومظاهرتهم ومعاونتهم والاستبشار بنصرهم وموالاة وليهم ومعاداة عدوهم من أهل الإسلام، فكل هذه الأمور زائدة على مجرد الإقامة بين أظهرهم، وكل عمل من هذه الأعمال قد توعّد الله عليه بالعذاب والخلود فيه وسلب الإيمان، وحلول السخط به وغير ذلك مما هو مضمون الآيات المحكمات التي قد تقدمت، وكل ذنب من هذه الذنوب له عقوبة تخصه، كلما ازداد منه زاد الله له في العقوبة.
فإن لم يؤمن بتلك الآيات المحكمات ويعترف بصدور تلك الأعمال منه فما أشبه حاله بحال من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 1.
واعلم أن هؤلاء المشركين لا يرضون من هذا وأمثاله بمجرد الموالاة والنصرة دون عبادتهم وتسويتهم لهم بالله في التعظيم والإجلال والتودد إليهم. فمن ذلك الانحناء لهم والإشارة باليد إلى أشرف أعضاء السجود وهو الجبهة والأنف.
وكل ذلك من خصائص الإلهية، وذلك أمر لا محيد لهم عنه، كما قال تعالى عن أهل الكهف:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} 2. ولهذا لم يجدوا من مفارقتهم بُدا، حتى ذهبوا إلى غار في رأس جبل خوفا من ذهاب دينهم فآثروا الله على كل ما سواه.
قال شيخنا -في هذه القصة-: فيه اعتزال أهل الشرك واعتزال معبوداتهم وقوله: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} 3 فيه شدة صلابتهم في دينهم حيث عزموا على ترك الرياسة الكبرى والنعمة العظيمة واستبدلوا بها كهفا في رأس جبل.
(قلت): ومثل ذلك ما ذكره الله عن سحرة فرعون لما استنارت قلوبهم
1 سورة البقرة آية: 85.
2 سورة الكهف آية: 20.
3 سورة الكهف آية: 10.