الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن الأمر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله أو أمر به، لا يقال فيه: فما فائدة الإسرار بذلك؟ بل إذا صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل شيئا أو أمر به، فلا يفعله ولا يأمر به إلا لما فيه من الفائدة العظيمة، والمصلحة العميمة، ولا يقول مثل هذا الكلام إلا من هو من أجهل الجاهلين، وأبطل المبطلين.
كيف يجوز عند من له أدنى مسكة من العقل والدين أن يصح عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل شيئا أو أمر به، ولا يكون في ذلك فائدة أصلا؟ ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، لا يقدرون رسول الله صلى الله عليه وسلم حق قدره، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه.
فصل
[رأي الزيدية في الإمامة وغلو الإمامية والباطنية]
زعم الزيدية أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على تقديم علي في الخلافة
وأما قوله: (وقد علمنا بالتواتر المعنوي من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلن وأنذر وأفصح وأكثر في تقديم علي رضي الله عنه على غيره من الصحابة رضي الله عنهم في الولاية، ولكن أهل البيت بعد علمهم بتقديم علي، لم يخوضوا في جانب من تقدم إلا كخوضه رضي الله عنه من إبانة الحق للأمة، وأنه الأقدم.
والتوجع فقط في مواطن، خروجا منه عن التلبيس والمداهنة في الدين، إذ الحق لله -تعالى- فإذا هو رضي الله عنه قد فرض أنه أسقط حقه، وجب عليه إبانة ما هو لله إذ هو المولى له، فلم يسكت، بل أعلن رضي الله عنه بما يجب عليه، وأهل البيت وصفوة شيعته لم يصنعوا إلا كما صنع علي، فلم يغلوا غلو الإمامية ولا الباطنية، نسأل الله السلامة).
(فالجواب) من وجوه:
(أحدها): أن هذا من أظهر الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى علي رضي الله عنه، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره بالأسانيد الثابتة قصة خروج علي والعباس من عند النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه حين قال الناس لعلي: "يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئًا. فقال له العباس رضي الله عنه: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله:
فيمن هذا الأمر فإن كان فينا عرفنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه، فأوصى بنا. فقال علي رضي الله عنه: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها، لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم"1 أخرجه البخاري عن إسحاق.
أخبرنا بشر بن شعيب بن أبي حمزة، حدثني أبي عن الزهري، أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، وكان كعب أحد الثلاثة الذين تيب عليهم: أن ابن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي منه، وذكر الحديث كنحو ما سقناه. وكل هؤلاء الذين رووا هذا الحديث أئمة مشاهير.
(الوجه الثاني): ما أخرجه أحمد والبيهقي بسند حسن، عن علي أنه قال -لما ظهر يوم الجمل-:"أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام، ثم ضرب الدين بِجِرَانِهِ، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا، فكانت أمور يقضي الله فيها".
(الوجه الثالث): ما روى جمع من أهل الحديث: كالدارقطني وابن عساكر والذهبي وغيرهم: أن عليا أقام بالبصرة حين بايعه الناس، فقام إليه رجلان، فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه؛ لتستولي على الأمر وعلى الأمة، تضرب بعضها ببعض، أعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهده إليك؟ فحدثنا، فأنت الموثوق به، والمأمون على ما سمعت.
فقال: "أما أن يكون عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلا، والله لأن كنت أول من صدق به، فلا أكون أول من كذب عليه، ولو كان عندي منه عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة، وعمر بن الخطاب يثبان على منبره، ولقاتلتهما بيدي، ولو لم أجد إلا بردي هذه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُقْتَلْ قتلا، ولم يمت فجأة، ومكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه لصلاة، فيأمر أبا بكر، فيصلي بالناس، وهو يرى مكاني.
ولقد أرادت امرأة من
1 البخاري: المغازي (4447) ، وأحمد (1/ 263 ،1/ 325).
نسائه تصريفه عن أبي بكر، فأبى وغضب، وقال:"أنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس"1. فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا مَنْ رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، وكانت الصلاة أعظم شعائر الإسلام، وقوام الدين، فبايعنا أبا بكر رضي الله عنه فكان لذلك أهلا، لم يختلف عليه منا اثنان -وفي رواية- فأديت إلى أبي بكر حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جنوده، فكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي.
فلما قُبِضَ رضي الله عنه بايعنا عمر، لم يختلف عليه منا اثنان، فأديت له حقه، وغزوت معه، وعرفت طاعته، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما قبض رضي الله عنه تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وفضلي، وأنا أظن أن لا يُعْدَل بي، ولكن خشي أن لا يعمل الخليفة بعده شيئا إلا لحقه في قبره.
فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت محاباة لآثر بها ولده وبرئ منها لرهط أنا أحدهم، فظننت ألا يعدلوا بي، فأخذ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مواثيقنا على أن نسمع ونطيع لمن ولاه الله أمرنا، ثم بايع عثمان، فنظرت فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي قد أخذ لغيري، فبايعنا عثمان، فأديت له حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي.
فلما أصيب فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما بالصلاة قد مضيا، وهذا الذي أخذ له ميثاقي قد أصيب، فبايعني أهل الحرمين وأهل هذين المصرين -الكوفة والبصرة- فوثب فيها من ليس مثلي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمى، ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه، يعني:"معاوية". أخرجه هؤلاء الأئمة.
وأخرجه إسحاق بن راهويه من طرق أخرى، قال الذهبي: وهذه طرق يقوي بعضها بعضا، قال: وأصحها ما رواه إسماعيل بن علية، فذكره وفيه: لما قيل لعلي: أخبرنا عن مسيرك، أعهد عهده إليك النبي صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيته؟
1 البخاري: الأذان (664)، ومسلم: الصلاة (418)، والترمذي: المناقب (3672)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1232) ، وأحمد (6/ 34 ،6/ 96 ،6/ 210 ،6/ 224 ،6/ 270)، ومالك: النداء للصلاة (414).
فهذه الطرق كلها عن علي رضي الله عنه متفقة على نفي النص بإمامته، ووافقه على ذلك علماء أهل بيته.
فقد أخرج أبو نعيم عن المثني بن الحسن السبط، أنه لما قيل له:"من كنت مولاه فعلي مولاه" نص في إمامة علي.
فقال: "أما والله لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الإمارة والسلطان، لأفصح لهم به؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح الناس، ولقال لهم: يا أيها الناس هذا ولي أمري، والقائم عليكم بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا. ما كان من هذا شيء، فوالله لئن كان الله ورسوله اختارا عليا لهذا الأمر، والقيام به للمسلمين من بعده، ثم ترك علي أمر الله ورسوله أن يقوم به، أو يعذر فيه للمسلمين، إن كان أعظم الناس خطيئة لعلي إذ ترك أمر الله ورسوله، وحاشاه من ذلك"
وكلام علي وأهل بيته في الثناء على أبي بكر وعمر كثير جدا بعد ما أفضت إليه الخلافة، وتواتر عنه أنه قال:"خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر".
وروى البخاري في صحيحه عن سفيان الثوري عن منذر عن محمد بن الحنفية، قلت لأبي: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:"يا بني، أبو بكر". قلت: ثم من؟ قال: "عمر". فخشيت أن يقول: ثم عثمان. فقلت: ثم أنت؟ فقال: "يا بني، إنما أنا رجل من المسلمين". وصح هذا عنه من وجوه كثيرة، وطرق متغايرة يصدق بعضها بعضا.
قال بعض أهل الحديث: إنه رواه عن أكثر من ثمانين نفسا من خواص أصحابه وأهل بيته. فقد تبين بما ذكرنا بطلان دعوى المعترض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على إمامته. فإذا ادعوا أن هذا مكذوب على أهل البيت، أمكن خصومهم أن يدعوا الكذب فيما رووه عن أهل البيت.
والدلائل الصحيحة التي احتجوا بها على النص على إمامة علي رضي الله عنه كقوله -تعالى-: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} 1، وكحديث غدير خم وقوله:"من كنت مولاه فعلي مولاه" فكل هذا ليس بصريح في
1 سورة المائدة آية: 55.
النص على إمامته، والله تبارك وتعالى قد فرض على رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين الذي يفهمه عامة الناس وخاصتهم، وتلك الدلائل معارضة بما هو أصح منها وأصرح، لكن هؤلاء لا يقبلون رواية أهل السنة، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها.
(الوجه الرابع): أن دعواهم النص على إمامته رضي الله عنه قد عارضها أقوام ادعوا النص على العباس، وعلى غيره، فالدعاوي الباطلة تمكن كل واحد. وقد قال الإمام أبو محمد بن حزم في كتاب "الملل والنحل":
"اتفق جميع فرق أهل القبلة، وجميع المعتزلة وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج -حاشا النجدات من الخوارج خاصة 1 - على وجوب الإمامة فرضا، وأن على الأمة الانقياد لإمام عدل يقيم فيهم أحكام الله عز وجل ويسوسهم بأحكام الشريعة.
[مذاهب فرق المسلمين في الإمامة]
ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على فرقتين: فذهب أهل السنة، وجميع الشيعة، وجمهور المرجئة، وبعض المعتزلة إلى أن: الإمامة لا تجوز إلا في قريش، خاصة مَنْ كان مِنْ ولد فهر بن مالك. وذهبت الخوارج كلها، وبعض المرجئة، وبعض المعتزلة إلى أنها جائزة في كل من قام بالكتاب والسنة، قرشيا كان أو عربيا أو عجميا. قال أبو محمد: وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك نقول؛ لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الأئمة من قريش.
وهذه رواية جاءت مجيء التواتر، رواها أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومعاوية رضي الله عنهم، وروى (جابر) بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم معناها.
ومما يدل على معناها إذعان الأنصار يوم السقيفة، وهم أهل الدار والمنعة والعدد والسابقة في الإسلام رضي الله عنهم، ومن المحال الممتنع الباطل أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الحق لغيرهم في ذلك.
ثم قال: ولا يخلو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"2 من أحد
1 وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة.
2 أحمد (3/ 129).
وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون أمرًا، وإما أن يكون خبرًا، فإن كان أمرا، فمخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسق، وعمله مردود، وإن كان خبرا، فمجيز تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر.
[اختلاف الفرق في الإمامة]
ثم اختلف القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في صلبة قريش، فقالت طائفة: هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط، وهذا قول أهل السنة، وجميع المرجئة، وبعض المعتزلة.
وقالت طائفة: لا تجوز الخلافة إلا في ولد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر.
وقال بعض بني الحارث بن عبد المطلب: لا تجوز الخلافة إلا لبني عبد المطلب خاصة، وهم أربعة فقط لم يعقب لعبد المطلب غيرهم، وهم: العباس والحارث وأبو طالب وأبو لهب. وبلغنا عن رجل من أهل طبرية الأردن: لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس، وكان له في ذلك تأليف مجموع. ورأينا كتابا مؤلفا لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا في ولد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقط.
قال أبو محمد: "وهذه الفرق الأربعة لم نجد لهم شبهة تستحق أن يشتغل بها إلا دعاوي كاذبة، لا وجه لها مع انقطاع القائلين بها ودثورهم".
وقالت طائفة: لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس، وهو قول الراوندية 1، واحتجوا بأن العباس كان عاصب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووارثه. قالوا: فإذا كان كذلك، فقد ورث مكانه، وهذا ليس بشيء؛ لأن الميراث لو صح له، لما كان ذلك إلا في المال خاصة، وأما المرتبة فما جاء قط في الديانة أنها تورث، فبطل هذا التمويه جملة، ولله الحمد.
وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة -حاشا الروافض- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نورث، ما تركناه صدقة"2 فاعترضوا بقول الله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 3 وقوله -تعالى- حاكيا عن زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي
1 نسبة إلى ابن الراوندي.
2 البخاري: المناقب (3712) والمغازي (4036 ،4241) والفرائض (6725 ،6730)، والترمذي: السير (1610)، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2968) ، وأحمد (1/ 48)، ومالك: الجامع (1870).
3 سورة النمل آية: 16.
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 1.
وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن الرواة، وحملة الأخبار، وجميع التواريخ القديمة، وكواف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلا يوجب العلم: أن داود عليه السلام كان له بنون ذكور جماعة غير سليمان؛ فصح أن سليمان ورث النبوة، وهكذا القول في ميراث يحيى بن زكريا عليهما السلام وبرهان ذلك من نص الآية نفسها قول زكريا عليه السلام:{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 2.
فأي شيء كان يرث من آل يعقوب؟ لكل سبط من أسباط يعقوب عصبات عظيمات، وهم مئو ألوف، فصح أنه إنما رغب في ولد يرث عنه، وعن آل يعقوب النبوة فقط. وأيضا فمن المحال أن يرغب زكريا في ولد يحجب عصبته عن ميراث إذ إنما يرغب في هذا ذو الحرص على الدنيا وحطامها.
وقد كان العباس حيا قائما إذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ادعى العباس لنفسه في ذلك حقا، لا حينئذ، ولا بعد ذلك. فصح أنه رأي محدث فاسد لا وجه للاشتغال به، وما رضيه أحد قط من خلف ولده، ولا من أماثلهم ترفعا عن سقوط هذه الدعوى ووهنها، وبالله التوفيق.
[مذهب الروافض والزيدية في الإمامة]
وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنهم انقسموا قسمين: فقالت طائفة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على علي رضي الله عنه بأنه الخليفة بعده. وإن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته اتفقوا على ظلم علي رضي الله عنه وعلى كتمان ذلك النص. وهؤلاء هم الروافض.
وطائفة قالت: لم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على علي، لكنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالخلافة، وهؤلاء هم الزيدية "نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم"، ثم اختلفت الزيدية فرقا، فقالت طائفة أن الصحابة ظلموه، فكفروا كل من خالفه من الصحابة رضي الله عنهم وهم الجارودية.
وقالت طائفة: لم يظلموه، لكن طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنهما إماما هدى، ووقف بعضهم في عثمان رضي الله عنه وتولاه بعضهم. وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع بني
1 سورة مريم آية:5، 6.
2 سورة مريم آية: 6.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة، وجب سل السيف معه.
وقالت الروافض بأجمعهم: الإمامة في علي رضي الله عنه وحده بالنص عليه، ثم في الحسن، ثم في الحسين رضي الله عنهما. وادعوا نصا آخر من النبي صلى الله عليه وسلم عليهما بعد أبيهما، ثم علي بن الحسين؛ لقول الله عز وجل:{وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1.
قالوا: فولد الحسين أحق من بني أخيه الحسن، ثم محمد بن علي بن الحسين، ثم في جعفر بن محمد، ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر بن محمد. فقالت طائفة بإمامة ابنه إسماعيل بن جعفر وادعوا أنه حي لم يمت، والذي لا شك فيه أنه مات في حياة أبيه، وهو كان أكبر بنيه. وقالت طائفة بإمامة ابنه محمد بن جعفر. وقالت طائفة جعفر بن محمد حي لم يمت.
وقال جمهور الروافض بإمامة ابنه موسى بن جعفر، ثم علي بن موسي، ثم محمد بن علي بن موسى، ثم علي بن محمد بن على بن موسى، ثم الحسن بن علي، ثم مات الحسن عن غير عقب، فافترقوا فرقا، وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن ولد فأخفاه، وقيل: بل ولد له بعد موته من جارية له اسمها صقيل.
وكانت طائفة قديمة رئيسهم المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكيسان المكنى بأبي عمرة وغيرهم، يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين بن على رضي الله عنه أخوه محمد المعروف بابن الحنفية، ومن هذه الطائفة السيد بن إسماعيل الحميري الشاعر، وكثير عزة الشاعر، وكانوا يقولون: إن محمد بن الحنفية حي بجبل رضوى، ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف الكثيرة.
وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث مكذوبة ;موضوعة، لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء.
قال أبو محمد: "لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدقونها، وإنما يجب أن
1 سورة الأنفال آية: 75.
يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام به عليه الحجة سواء صدقه المحتج به أو لم يصدقه؛ لأن من صدق شيئا لزمه القول به، أو بما يوجب العلم الضروري، فيصير الخصم حينئذ -إن خالفه- مكابرا بالباطل منقطعا.
إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحيحة، منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنْزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي"1.
قال أبو محمد: "وهذا لا يوجب فضل علي على من سواه، ولا استحقاق الإمامة بعده؛ لأن هارون عليه السلام لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام فتاه يوشع بن نون، وهو صاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام. كما ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إذ هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وإذا لم يكن علي نبيا كما كان هارون، ولا كان هارون خليفة على بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، فقد صح أن كونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنْزلة هارون من موسى عليهما السلام إنما هو في القرابة فقط.
وأيضا فإنما قال رسول -الله صلى الله عليه وسلم هذا القول إذ استخلفه على المدينة في "غزوة تبوك"، فقال المنافقون: استثقله فَخَلَّفَهُ. فلحق علي رضي الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ، فشكا إليه، فقال صلى الله عليه وسلم:"أنت مني بمنْزلة هارون من موسى"2 لاستخلافه إياه على المدينة مختارا له.
ثم قد استخلف صلى الله عليه وسلم قبل تبوك وبعدها على المدينة في غزواته وعُمَرِهِ وحجه رجالا سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلا على غيره ممن استخلفه، ولا يوجب -أيضا- ولاية الأمر بعده صلى الله عليه وسلم كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين.
قال أبو محمد: "وعمدة ما احتجت به الإمامية أنه لا بد أن يكون إمام معصوم، عنده جميع علم الشريعة، يرجع الناس إليه في أحكام الدين؛ ليكونوا مما تعبدوا به على يقين.
قال أبو محمد: "هذا لا شك فيه، وهو معروف ببراهينه الواضحة، وأعلامه
1 البخاري: المغازي (4416)، ومسلم: فضائل الصحابة (2404)، والترمذي: المناقب (3731)، وابن ماجه: المقدمة (121) ، وأحمد (1/ 175 ،1/ 177 ،1/ 179 ،1/ 182 ،1/ 184 ،1/ 185).
2 البخاري: المغازي (4416)، ومسلم: فضائل الصحابة (2404)، والترمذي: المناقب (3731)، وابن ماجه: المقدمة (121) ، وأحمد (1/ 175 ،1/ 177 ،1/ 179 ،1/ 182 ،1/ 184 ،1/ 185).
المعجزة وآياته الباهرة، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله إلينا ببيان دينه الذي ألزمنا إياه صلى الله عليه وسلم فكان كلامه، وعهوده وما بَيَّنَ وبلغ من كلام الله عز وجل حجة باقية معصومة من كل آفة إلى كل من بحضرته، وإلى من كان في حياته غائبا عن حضرته، وإلى كل من يأتي بعد موته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة من جن وإنس، قال عز وجل:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 1.
فهذا نص ما قلنا، وإبطال اتباع أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة؛ لينفذ الإمام عهود الله عز وجل الواردة إلينا من عنده فقط، لا لأن يأتي الناس بما لا يشاؤونه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجدنا عليا رضي الله عنه إذا دعي إلى التحاكم بالقرآن، أجاب، وأخبر أن التحاكم إلى القرآن حق، فإن كان علي رضي الله عنه أصاب في ذلك فهو قولنا، وإن كان أجاب إلى الباطل، فهذه غير صفته رضي الله عنه. ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجب إلا بحضرة الإمام؛ لقال علي حينئذ: كيف تطلبون تحكيم القرآن، وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[دحض ابن حزم شبهة الروافض في الإمام المعصوم]
فإن قالوا: إذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من إمام يبلغ الدين. قلنا: هذا باطل، ودعوى بلا برهان، وقول لا دليل على صحته، وإنما الذي يحتاج إليه أهل الأرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو بيانه صلى الله عليه وسلم وتبليغه فقط، سواء في ذلك من كان بحضرته، ومن غاب عنه، ومن جاء بعده، إذ ليس في شخصه المقدس صلى الله عليه وسلم إذا لم يتكلم أو يعمل بيان عن شيء من الدين فالمراد عنه صلى الله عليه وسلم +ق أبدا مبلغ إلى كل من في الأرض.
وأيضا فلو كان ما قالوا من الحاجة إلى إمام موجود أبدا؛ لكان ذلك مُنْتَقَضًا عليهم بمن كان غائبا عن حضرة الإمام في أقطار الأرض، إذ لا سبيل
1 سورة الأعراف آية: 3.
إلى مشاهدة الإمام لجميع أهل الأرض في المشرق والمغرب، من فقير وضعيف، وامرأة ومريض، ومشغول بمعاشه الذي يهلك إن أغفله، فلا بد من التبليغ عن الإمام. فالتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من التبليغ عمن دونه. وهذا ما لا انفكاك منه.
قال أبو محمد: "لا سيما وجميع أئمتهم الذين يدعون بعد علي بن أبي طالب، والحسن والحسين ابنيه رضي الله عنهم ما أمروا قط في غير منازل سكناهم، ولا حكموا على قرية فما فوقها بحكم. فما الحاجة إليهم لا سيما منذ مائة ونيف وثمانين عاما! فإنهم ينتظرون إماما ضالة من الضوال، لم يُخلق كعنقاء مغرب، هم أولو فحش وقِحَةٍ وبهتان، ودعوى كاذبة لا يعجز عنها أحد.
"ويقال لهم -أيضا-: كون الدين كله عند إمام واحد معصوم من حين موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى انقضاء الدهر، لا يخلو من أن يكون أحكام الدين عند ذلك الإمام من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما عن وحي من الله عز وجل فهذه نبوة. ومن قال بنبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير المسيح، فقد كفر وارتد وحل دمه.
أو عن إلهام، وهذا وسواس من الشيطان، وليس هو أولى بدعوى الإلهام من غيره، أو بتعليم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم سائر الناس بما أعلم به علي بن أبي طالب، فعليّ وغيره في ذلك سواء ولا فرق، وإن كان صلى الله عليه وسلم كتم من سائر الناس ما علمه علي بن أبي طالب، فلم يبلغ كما أُمِرَ.
قال -تعالى-: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1 فمن قال: إنه صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس ما أنزل الله إليه، بل كتمهم إياه، وخص به علي بن أبي طالب سرا، فقد كفر إذ وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عصى أمر ربه -تعالى- له بالبيان للناس جهارا. فبطل ما ادعوه يقينا من كل وجه، والحمد لله رب العالمين.
"وأيضا فنقول لهؤلاء المخاذيل، وبالله التوفيق: هل بيَّن هؤلاء ما ادعوه من
1 سورة النحل آية: 44.
الدين أو لم يبينوا؟ ولا بد من أحدهما، فإن قالوا: بينوا ما عندهم. قلنا: وتبيين أولهم يكفي عن الآخر منهم؛ لأنه يصير ما بين عند الناس ينقلونه جيلا عن جيل، فبطلت الحاجة إليهم. فإن قالوا: لم يبينوا -وهو قولهم- لأنهم عندهم صامتون حتى يأتي الإمام الناطق (الثاني عشر).
قلنا لهم: فهل حاقت بهم اللعنة من الله -تعالى- بنص القرآن إذ لم يبينوا ما عندهم من الهدى. وبالجملة فما أمة أحمق من الروافض والنصارى جملة.
قال أبو محمد: "وبرهان آخر ضروري، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وجمهور الصحابة رضي الله عنهم حضور -حاشا مَنْ كان منهم في النواحي- فما منهم أحد أشار إلى الناس في علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه، ولا ادعى ذلك علي رضي الله عنه قط، لا في ذلك الوقت ولا بعده، ولا ادعاه أحد له، ولا بعده في ذلك الوقت.
ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة، ولا يجوز اتفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنابذي الهمم والنيات والأنساب، أكثرهم موتور من صاحبه في الدماء من الجاهلية على طي عهده صلى الله عليه وسلم إليهم. وما وجدنا قط رواية عن أحد بهذا النص المدعى، إلا رواية موضوعة واهية عن قوم مجهولين، لا يعرفهم أحد، عن مجهول يكني أبا الحمراء لا يُعرف من هو، ووجدنا عليا -رضي الله- عنه قد توقف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر، فما أكرهه أبو بكر على البيعة حتى بايع طائعا مبادرا، راجعا عن تأخره عنها، مختارا غير مكره. فكيف حل لعلي عند هؤلاء النوكى أن يبايع طائعا لرجل كافر أو فاسق، جاحد لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعينه على أمره، وأن يشاهد في مجلسه، وأن يواليه إلى أن مات.
ثم بايع بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه مبادرا غير متردد ساعة فما فوقها، غير مكره، بل طائعا، وصحبه وأعانه على أمره، وأنكحه ابنته من فاطمة رضي الله عنها، ثم قبل إدخاله في الشورى أحد ستة رجال؟ فكيف حل لعلي رضي الله عنه عند هؤلاء الجهال أن
يشارك بنفسه في شورى ضلالة أو كفر، وأن يغر الأمة هذا الغرور؟ هذا الأمر أدى أبا كامل -وهو من أئمة الروافض- إلى تكفير علي؛ لأنه زعم أنه أعان الكفار على كفرهم، وأيدهم على كتمان الديانة، وعلى ستر ما لا يتم الدين إلا به.
[البراهين على بطلان دعوى النص على إمامة علي]
قال أبو محمد: "ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه أنه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت، وهو الأسد شجاعة، قد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات، ثم يوم الجمل وصفين، فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين؟
وما الذي ألف بين بصائر الناس على كتمان حق علي رضي الله عنه ومنعه حقه مذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قتل عثمان، رضي الله عنه؟ ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه إذ دعا لنفسه، فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة، وبذلوا دماءهم دونه، ورأوه حينئذ صاحب الأمر، والأولى بالحق ممن نازعه؟ فما الذي منعه، ومنعهم من الكلام، وإظهار النص الذي يدعيه الكذابون إذ مات عمر رضي الله عنه وبقي الناس بلا رأس ثلاثة أيام، أو يوم السقيفة؟
وأظرف من هذا كله بقاؤه ممسكا عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر، فما سُئِلَهَا، ولا أجبر عليها ولا كلفها، وهو متصرف بينهم في أموره، فلولا أن رأى الحق فيها، فاستدرك أمره، فبايع طالبا حظ نفسه في دينه، راجعا عن الخطأ إلى الحق - لما بايع.
فإن قالت الروافض: إنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع عن الحق إلى الباطل، فقولهم هو الباطل حقا، لا ما فعل علي رضي الله عنه، ثم ولي علي رضي الله عنه فما غير حكما من أحكام أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولا أبطل عهدا من عهودهم، ولو كان ذلك عنده باطلا، لما كان في سعة من أن يمضي الباطل وينفذه، وقد ارتفعت التقية عنه.
وأيضا فقد نازع الأنصار رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة. ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وقعد علي رضي الله عنه في بيته، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ليس معه أحد غير الزبير بن العوام رضي الله عنه
ثم استبان الحق للزبير فبايع سريعًا، وبقي علي وحده لا يرقب عليه، ولا يمنع من لقاء الناس، ولا يمنع أحد من لقائه.
فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه من أن يكون عن أحد ثلاثة أوجه، لا رابع لها البتة: إما عن غلبة، وإما عن ظهور حقه إليهم فأوجب عليهم الانقياد لبيعته، وإما فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى. فإن قالوا: بايعوه بغلبة، ظهر فاحش كذبهم؛ لأنه لم يكن هناك قتال ولا تضارب، ولا سباب ولا تهديد، ولا وقت طويل ينفسح للوعيد، ولا سلاح مأخوذ، ومن المحال الممتنع أن يترك أزيد من ألفي فارس أنجاد أبطال، كلهم عشيرة واحدة، وقد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه، وهو أنهم بقوا ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم، مُوَطَّنِين على الموت، متعرضين مع ذلك لحرب قيصر والروم بمؤتة وغيرها، ولحروب كسرى والفرس ببصرى، من يخاطبهم يدعوه ويدعوهم إلى اتباعه، وأن يكونوا كأحد من بين يديه. هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب.
"فمن المحال الممتنع الذي لا يمكن ألبتة أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا إلى مجلسهم فقط، وأبو بكر رضي الله عنه لا يرجع إلى عشيرة كثيرة، ولا إلى موالي، ولا إلى عصبة، ولا إلى مال، فرجعوا إليه -وهو عندهم مبطل- وبايعوه بلا تردد نصف يوم فأكثر.
وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم، وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم، وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا معنى ولا خوف ولا ظهور الحق إليهم.
فمن المحال اتفاق أهواء هذا العدد العظيم على ما يعرفون أنه باطل دون خوف يضطرهم إلى ذلك، ودون طمع يتعجلونه من مال أو جاه، بل فيما فيه ترك العز والرياسة والدنيا، وتسليم كل ذلك لرجل أجنبي لا عشيرة له ولا منعة، ولا حاجب ولا حراس على بابه، ولا قصر يمنعه ولا موالي ولا مال، فأين كان علي وهو الذي لا نظير له في
الشجاعة، ومعه جماعة بني هاشم، وبني المطلب من قتل هذا الشيخ الذي لا دافع دونه لو كان عنده ظالما، أو عن منعه وزجره إن لم يستحل قتله؟ بل قد علم -والله- علي أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق، وأن من خالفه على الباطل، فأذعن للحق إذ تبينه بعد ما عرضت له فيه كبوة.
وكذلك الأنصار رضي الله عنهم إنما رجعوا إلى بيعته بلا شك ولا مرية؛ لبرهان حق صح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم لا لاجتهاد كاجتهادهم، ولا لظن كظنهم إذ لم يبق غير ذلك، وبطل كل ما سواه يقينا.
"وإذ قد بطل أن يكون الأمر في الأنصار، وزالت الرياسة عنهم. فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة علي رضي الله عنه؟
ومن المحال الممتنع أن تتفق آراؤهم كلهم على معاونة من ظلمهم، وغصبهم حقهم بالباطل، إلا أن يدعي الروافض أنهم كلهم اتفق لهم نسيان ذلك العهد. فهذه أعجوبة من المحال غير ممكنة، ثم لو أمكنت، لجاز لكل أحد أن يدعي فيما شاء من المحال أنه قد كان، وأن الناس كلهم نسوه، وهذا إبطال الحقائق كلها.
"وأيضا فإن كان جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه، واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه، فمن أين وقع إلى الروافض علمه؟ ومن بلغه إليهم؟ وهذا هوس ومحال. فبطل الأمر في دعوى النص على علي رضي الله عنه بيقين لا يشك فيه، والحمد لله رب العالمين.
"فإن قال قائل: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قتل الأقارب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولد له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ فلذلك انحرفوا عنه. قلنا لهم: هذا تمويه ضعيف كاذب؛ لأنه إن ساغ لكم في بني عبد شمس، وبني مخزوم، وبني عبد الدار، وبني عامر بن لؤي؛ لأنه قتل من كل قبيلة من هذه القبائل رجلا أو رجالا، فقتل من بني عامر بن لؤي رجلا
واحدًا فقط، وهو عمرو بن عبد ود، وقتل من بني مخزوم وبني عبد الدار رجالا، وقتل من بني عبد شمس الوليد بن عتبة بن ربيعة، وقيل: إنه قتل عقبة بن أبي معيط، وقيل: لم يقتله إلا عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه.
ولا مزيد فقد علم كل من له أقل علم بالأخبار أنه لم يكن لهذه القبائل، ولا لأحد منها يوم السقيفة عقد ولا حل، ولا رأي ولا أمر، اللهم إلا أن أبا سفيان بن حرب بن أمية كان مائلا إلى علي رضي الله عنه في ذلك تعصبا للقرابة لا تدينا، وكان ابنه يزيد، وخالد بن سعيد بن العاص، والحارث بن هشام المخزومي رضي الله عنهم مائلين مع الأنصار تدينا، والأنصار رضي الله عنهم قتلوا أبا جهل أخا الحارث.
وكان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شديد الميل إلى علي رضي الله عنه حين قصة عثمان رضي الله عنه وبعد ذلك؛ ولذلك قتله معاوية رضي الله عنه صبرا على عثمان رضي الله عنه.
فعرفونا من قتل علي من بني تيم بن مرة، أو من بني عدي بن كعب، أو من بني الحارث بن فهر رهط أبي عبيدة رضي الله عنه حتى يظن أهل القحة أنهم حقدوا عليه؟
ثم أخبرونا من قتل علي من الأنصار رضي الله عنهم أو من جرح منهم، أو من آذى منهم؟ ألم يكونوا معه في تلك المشاهد كلها، بعضهم متقدم، وبعضهم مساو له، وبعضهم متأخر عنه؟ فأي حقد له في قلوب الأنصار حتى يطبقوا كلهم على جحد النص عليه، وعلى إبطال حقه، وعلى ترك ذكر اسمه جملة، وعلى إيثار سعد بن عبادة عليه، وعلى إيثار أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم عليه، والمسارعة إلى بيعتهم دونه بالخلافة، وهو بين أظهرهم، يرونه غدوا وعشيا، لا يحول أحد بينهم وبينه؟
ثم أخبرونا مَنْ قتل علي مِنْ أقارب المهاجرين من العرب من مضر وربيعة، واليمن وقضاعة حتى يطبقوا كلهم على كراهة ولايته، ويتفقوا كلهم على جحد النص عليه؟ وإن هذه العجائب لا يمكن اتفاق مثلها في العالم أصلا
"ولقد كان لطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من القتل في المشركين كالذي كان لعلي، فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له لو كان للروافض حياء وعقل؟ ولقد كان لأبي بكر رضي الله عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي، فما منعهم ذلك من بيعته، وهو أسوأ الناس أثرا عندهم في حال كفرهم. ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مغالبة كفار قريش، وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي.
فليت شعري! ما الذي أذهب آثار هؤلاء، وأوجب أن ينسى، وأوجب أن يعادوا عليا من بينهم كلهم؟ لولا قلة حياء الروافض، وصفاقة وجوههم، حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد وأسامة وابن عمر رضي الله عنهم، وعلى رافع بن خديج، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم سواء هؤلاء من المهاجرين والأنصار - أنهم لم يبايعوا عليا إذ دعا إلى نفسه، ثم بايعوا معاوية رضي الله عنه، ويزيد ابنه -من أدركه منهم-، وادعوا أن تلك الأحقاد حملتهم على ذلك.
قال أبو محمد: حمق الروافض، وشدة ظلمة جهلهم وقلة حيائهم هورهم في الدمار والبوار، والعار والنار، وقلة المبالاة بالفضائح.
وليت شعري! أيُّ خُمَاشة، وأي كلمة خشنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو واحد منهم؟ وإنما كان هؤلاء، ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة، فلما أصفق المسلمون على من أصفقوا عليه كائنا ما كان، دخلوا في الجماعة، وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير ومروان؛ فإنهم قعدوا عنهما، فلما انفرد عبد الملك بن مروان دخلوا في الجماعة، وبايعه من أدركه منهم لا رضى عنه، ولا عداوة لابن الزبير، ولا تفضيلا لعبد الملك على ابن الزبير، لكن لما ذكرناه. وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فلاحت نُوكَةُ هؤلاء المجانين، والحمد لله رب العالمين.
"فصحّ ضَرُورَة بِكُل مَا ذكرنَا أَن الْقَوْم أنزلوه مَنْزِلَته غير غالين فيه، وَلَا مقصرين به رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، وَأَنَّهُمْ قدمُوا الأحق فَالْأحق وَالْأَفْضَل فَالْأَفْضَل، وساووه بنظرائه مِنْهُم.
"ثمَّ أوضح برهَان وَأبين بَيَان فِي بطلَان أكاذيب الروافض أَن عليا رضي الله عنه إذ دعا لنَفسه بعد قتل عُثْمَان رضي الله عنه سارعت طوائف من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار إِلَى بيعَته، فَهَل ذكر أحد من النَّاس قط أن أحدًا مِن الذين بايعوه اعتذر إِلَيْهِ مِمَّا سلف من بيعتهم لأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رضي الله عنهم؟ أَو هَل تَابَ أحد مِنْهُم من جَحده للنَّص على إِمَامَته؟ أَو هل قَالَ أحد مِنْهُم: لقد ذكرت النَّص الَّذِي كنت نسيته فِي أَمر هَذَا الرجل؟ إن عقولاً خَفِي عَلَيْهَا هَذَا الظَّاهِر اللائح لَعقول مخذولة لم يرد الله أَن يهديها.
"ثمَّ مَاتَ عمر رضي الله عنه وَترك الْأَمر شُورَى بَين سِتَّة من الصَّحَابَة رضي الله عنهم عَليّ أحدهم، وَلم يكن فِي تِلْكَ الْأَيَّام الثَّلَاثَة سُلْطَان يخَافه أحد وَلَا رَئِيس يتوقع، وَلَا مَخَافَة من أحد، وَلَا جند معد للتغلب.
"أفَتُرى لَو كَانَ لعَلي رضي الله عنه حق ظَاهر يخْتَص بِهِ من نَص عَلَيْهِ من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، أَو من فضل بَائِن على من مَعَه ينْفَرد بِهِ عَنْهُم. أما كَانَ الْوَاجِب على عَليّ رضي الله عنه أَن يَقُول: أَيهَا النَّاس كم هَذَا الظُّلم لي؟ وَكم هَذَا الكتمان لحقي؟ وَكم هَذَا الْجحْد لنَصّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم علَي؟ وَكم هَذَا الْإِعْرَاض عَن فضلي الْبَائِن على هَؤُلَاءِ المقرونين بِي؟ فَإِذا لم يفعل فلَا أدْرِي لماذا؟ أما كَانَ فِي بني هَاشم -على كثرتهم يومئذ- أحد لَهُ دين يَقُول هَذَا الْكَلَام؟ إمّا الْعَبَّاس عَمه -وَجَمِيع الْمسلمين على توقيره وتعظيمه، حَتَّى أَن عمر رضي الله عنه توسل بِهِ إِلَى الله عز وجل بِحَضْرَة المسلمين فِي الاسْتِسْقَاء-، وَإمّا أحد بنيه، وَإمّا عقيل، وَإمّا أحد بني جَعْفَر وبني الحارث أو بني لهب أو مواليهم. فَإِذا لم يكن أحد منهم يَتَّقِي الله عز وجل وَلَا يَأْخُذهُ فِي قَول