الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
[في اعتدال أهل السنة بين غلو الشيعة وجفوة النواصب]
وأما قوله: (وانظر تواريخ الإسلام وما قال الناس، هل أحد روى أن معاوية وأصحابه ضمنوا ما أفسدوا من حقوق المسلمين، وأنهم تابوا من تلك الطامة، والفاحشة العامة، والمعصية الكبيرة، وهو البغي الذي أقررت به، وهل ودوا عمارا وخزيمة وأبا الهيثم وأويسا القرني -سيد التابعين- وغيرهم، وسلموا دياتهم إلى أهليهم، أم ماتوا متلطخين بدمائهم وبالفسق والعصيان؟)
(فالجواب): أن يقال كل ما ذكرت في معاوية وأصحابه قد جرى مثله لعلي وأصحابه أو ما هو أعظم من ذلك، وهو قتل طلحة والزبير ومن معهما من المهاجرين والأنصار، وأعظم من ذلك أن قتلة عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه كانوا مع علي، وكانوا من رؤوس عسكره، فما قلت في معاوية يقال في علي رضي الله عنه فكما تأوَّل علي رضي الله عنه في الدماء كذلك تأوَّل معاوية وأصحابه، فإن صحَّت هذه الدعوى ففيها من القدح والغضاضة في علي والحسن والحسين وابن عباس رضي الله عنهم ما لا يخفى.
وهذه الحجة التي ذكرت مما يحتج بها معاوية رضي الله عنه وأصحابه على علي رضي الله عنه وأصحابه، ولا يمكنك أن تأتي بحجة صحيحة تُبَرِّيء بها عليا وأصحابه دون معاوية وأصحابه، إلا بالمكابرة والمعاندة.
فظهر بما ذكرناه أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الصواب الذي لا يتناقض؛ لأن الباغي قد يكون متأوِّلا معتقدا أنه على حق، وقد يكون متعمدا يعلم أنه باغٍ، وقد يكون بغيه مركبا من شبهة وشهوة وهو الغالب، وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فأصلهم مستقيم مطرد في هذا الباب، وأما أنتم فمتناقضون.
وذلك أن النواصب من الخوارج وغيرهم الذين يُكَفِّرون عليا أو يُفسِّقُونه أو يشكون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم لو قالوا لكم: ما الدليل على إيمان
علي وإمامته وعدله؟ لم يكن لكم حجة، فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته، قالوا لكم: وهذا متواتر عن الصحابة والتابعين والخلفاء الثلاثة وغيرهم. فليس قدحنا في إيمان علي وأصحابه إلا مثل قدحكم في إيمان معاوية وأصحابه. وإن احتججتم بما في القرآن من الثناء والمدح على الصحابة، قالوا: آيات القرآن عامة تتناول غير علي منهم مثل ما تتناول عليا رضي الله عنه، وإن أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء، فإخراجنا عليا أيسر وأهون، فإن احتججتم عليهم بالنص الذي تدعونه، كان احتجاجهم بالنصوص التي يدعونها في أبي بكر، بل في العباس معارضا لذلك رضي الله عنهم، ولا ريب عند كل من يعرف الحديث أن تلك أولى بالقبول والتصديق. فإذا قال الرافضي: إن معاوية رضي الله عنه كان باغيا ظالما، قال له الناصبي: وعلي كان باغيا ظالما، قتل المسلمين على إمارته، وبدأهم بالقتال، وصال عليهم، وسفك دماء الأمة بغير فائدة لهم لا في دينهم ولا في دنياهم، وكان السيف في خلافته مسلولا على أهل الملة مكفوفا عن الكفار.
والقادحون في علي رضي الله عنه طوائف: طائفة تقدح فيه وفيمن قاتل جميعا. وطائفة تقول: فسق أحدهما لا بعينه، كما يقول ذلك عمرو بن عبيد وغيره من شيوخ المعتزلة، يقولون في أهل الجمل: فسقت إحدى الطائفتين لا بعينها، وهؤلاء يُفَسِّقُون معاوية. وطائفة تقول: هو الظالم دون معاوية كما تقوله المروانية. وطائفة تقول: كان في أول الأمر مصيبا فلما حكَّم الحَكَمَيْن كفر وارتدَّ، وهؤلاء الخوارج، وكلهم مخطئون في ذلك ضالون مبتدعون، وخطأ الشيعة مثله أو أظهر بطلانا منه.
فإن قال الذابُّ عن علي رضي الله عنه هؤلاء الذين قاتلهم علي كانوا بغاة؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية"1، فللناس في هذا الحديث أقوال منهم: مَنْ قدح في حديث عمار، ومنهم مَنْ تأوَّله على أن الباغي الطالب، وهو ضعيف، ومنهم مَنْ تأوَّله على عليٍّ وأصحابه كما قال معاوية لَمَّا
1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2916) ، وأحمد (6/ 289 ،6/ 300 ،6/ 311 ،6/ 315).