الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
[قول السلف في الاستواء على العرش]
وأما قوله: (إنك ادعيت أن الذي تذهب إليه ترك التعرض لتفسير آيات الصفات، والأوزاعي روى خلاف ما تدعي، فإنه قال: كنا والتابعون نقر بأن الله فوق عرشه. وإذا أثبت التابعون والأوزاعي الفوقية لله على العرش فقد فسروا 1، فكأنهم قالوا معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 أي كان فوقه، وأنت تقول: إنك لا تتعرض لتفسير آيات الصفات، فما الجامع بين كلامك، وكلام الأوزاعي والتابعين؟ فكيف تستدل به على تكفير المسلمين؟).
(فالجواب) أن يقال: هذا الكلام من المعترض مما يدل على جهله، وقلة معرفته بكلام الأئمة ومرادهم، فإن كلام الأوزاعي وغيره من أهل السنة معناه: أنهم لا يفسرون، ولا يكيفون صفات الله كالاستواء على العرش، والنُزول، والمجيء، والغضب، والرضى، والمحبة وغير ذلك من الصفات. فيقولون مثلا في الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما قال الإمام مالك ابن أنس رحمه الله، فقيل له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3، كيف استوى؟ فأطرق مالك، وعلاه الرحضاء -يعني العرق-، وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه، وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج.
ومَن أوّل الاستواء بالاستيلاء فذاك هو الذي فسر، وهذا تأويل الجهمية والمبتدعة الضالين، وهم أئمة هذا المعترض، الذين فارقوا ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتدعوا في الدين ما لم يأذن به
1 التفسير في اللغة المبالغة في توضيح ما فيه خفاء، وبهذا المعنى كان يذكره المتقدمون، فقول الأوزاعي بعدم تفسير الصفات الإلهية أنهم يرونها على ظاهر مدلول اللغة، مع اعتقاد تنزيهه -تعالى- عن مشابهة خلقه.
2 سورة طه آية: 5.
3 سورة طه آية: 5.
الله، والدليل على أن مذهب السلف ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها، يؤمن بها غير مرتاب فيها ولا شاك في صدق قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات بتأويل ولا غيره، ولا شبهوه بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم، ولم يجز أن يكتم بالكلية، إذ لا يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته؛ لجريان ذلك في القبح مجرى التواطؤ على نقل الكذب، وفعل ما لا يحل، بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا، أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه وزجره، تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب، وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته.
ولذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه أن صبيغا يسأل عن المتشابه، أعد له عراجين النخل، ثم أمر به فضرب ضربا شديدا، وبعث به إلى البصرة، وأمرهم أن لا يجالسوه فكان بها كالبعير الأجرب؛ لا يأتي مجلسا إلا قالوا: عزله أمير المؤمنين فتفرقوا عنه.
وقال سعيد بن جبير: ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين.
وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات الله -تعالى-، فقال: حرام على العقول أن تمثل الله -تعالى-، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تتعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف الله به نفسه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
وثبت عن الحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير أنه قال: أصول السنة، فذكر أشياء- ثم قال: وما نطق به القرآن، والحديث مثل:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} 1. ومثل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 2. وما أشبه هذا من القرآن والحديث، ولا نزيد فيه، ولا نفسره.
ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة، ونقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3. فمن زعم غير هذا فهو جهمي، فمذهب السلف -رحمة الله عليهم-: إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها
1 سورة المائدة آية: 64.
2 سورة الزمر آية: 67.
3 سورة طه آية: 5.