الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما علم بالعقل؛ إن كان ذلك حقا، كما قال بعض نُفَاةِ الصفات لما تأمل أحوال أصحابه، وحال مثبتيها، قال: لا ريب أن حال هؤلاء عند الله خير من حالنا؛ فإنهم إن كانوا مصيبين نالوا الدرجات العالية، والرضوان الأكبر، وإن كانوا مخطئين، فإنهم يقولون: يا ربّ نحن صدقنا ما دل عليه كتابك وسنة رسولك، إذ لم يتبين لنا بالكتاب والسنة نفي الصفات كما دل كلامك على إثباتها.
فنحن أثبتنا ما دل عليه كلامك، وكلام رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان الحق بخلاف ذلك، فلم يبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم ما يخالف ذلك، ولم يكن خلاف ذلك مما يعلم ببدائه العقول، بل إن قُدِّرَ أنه حق، فإنما يعلمه الأفراد، فكيف والمخالفون في ذلك يقرون بالحيرة والارتياب.
قال النافي: فإن كنا نحن المصيبين، فإنه يقال لنا: أنتم قلتم شيئا لم آمركم بقوله، وطلبتم علما لم آمركم بطلبه، فالثواب إنما يكون لأهل الطاعة، وأنتم لم تمتثلوا أمري. قال: وإن كنا مخطئين فقد خسرنا خسرانا مبينا.
فصل
[في إبطال تأويل الاستواء بالاستيلاء]
وأما قوله في تأويل الاستواء بالاستيلاء، ويساعده من كلام العرب ما نقله الغزالي من قول الشاعر:
قد استوى عمرو على العراق
…
من غير سيف أو دم مهراق
(فالجواب) أن يقال: أنت قد نقضت كلامك المتقدم، وقولك: ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش: الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على بعض.
وبيان ذلك أن الشاعر أخبر أن عمرًا استوى على العراق أي: ملَكه، فتقول: إن معناه جلس على العراق كله، وعطف رجليه على جميعه! فإن قلت هذا، فهذا مكابرة، وإن قلت: إن المعنى باستواء عمرو على العراق: ملكه، فقد نقضت ما أَصّلتَه، وهدمت ما قررته، فأعجب لِبَانٍ يُخَرِّبُ ما بَنَى. ولم تعلم
بجهلك بلغة العرب، وما يجوز على الله، وما يمتنع عليه أن ذلك لا يجوز في حقه تبارك وتعالى، وذلك أن الله -تعالى- مُسْتَوْلٍ على الكونيْن والجنة والنار وأهلها. فأيّ فائدة في تخصيص العرش؟ وأيضًا الاستيلاء يكون بعد قهر وغلبة، والله تعالى منَزه عن ذلك.
وقد أخرج اللالكائي في "السنة" عن ابن الأعرابي -وهو من أكابر أئمة اللغة- أنه سئل عن معنى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 1 فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقيل: يا أبا عبد الله، معناه استولى؟ فقال: اسكت. لا يقال: استولى على الشيء إلا إذا كان له مضادٌّ، فإذا غلب أحدهما. قيل: استولى.
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن الاستواء في لغة العرب يطلق على معانٍ متعددة:
(أحدها): بمعنى الاستقرار، كقوله:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} 2.
(ثانيها): بمعنى الاستيلاء، ومنه قول الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم
…
تركناهم صرعى لنسر وكاسر
(وثالثها): القصد والإقبال على الشيء، كقول القائل:"كان الأمير يدبر أمر الشام، ثم استوى إلى أهل الحجاز". أي: تحول فعله وتدبيره إليهم.
(رابعها): أنه بمعنى التمام والكمال، كقوله -تعالى-:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} 3 أي: كمل عقله.
فتبين بذلك كذب هذا المفتري وجهله بلغة العرب، وما أحسن ما قال بعضهم:"أكثر ما يفسد الناس نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي. هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللسان".
1 سورة الأعراف آية: 54.
2 سورة هود آية: 44.
3 سورة القصص آية: 14.