الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{حكمة الله في ابتلائه المؤمنين}
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في رسالته إلى البويري:
فمن حكمة الرب تعالى أنه ابتلى عباده المؤمنين الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع: الصنف الأول من عرف الحق فعاداه حسدا وبغيا كاليهود، فإنهم أعداء الرسول والمؤمنين كما قال تعالى:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1، {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2.
الصنف الثاني: الرؤساء أهل الأصول، الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون من أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه من شهوات الغي، فلم يعبئوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه دعوته.
الصنف الثالث: الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، فهم يظنون أنهم على حق وهم على الباطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم أعداء الحق من لدن زمن نوح إلى أن تقوم الساعة.
فأما الصنف الأول فقد عرفت ما قال الله فيهم، وأما الصنف الثاني فقد قال الله فيهم:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3. وقال عن الصنف الثالث: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 4. وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 5.
1 سورة البقرة آية: 90.
2 سورة البقرة آية: 146.
3 سورة القصص آية: 50.
4 سورة الزخرف آية: 22.
5 سورة الصافات آية: 69، 70.
شكر النعمة يوجب زيادتها
ومعنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} 1 الآية
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان -سلمهم الله تعالى-.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وبعد:
فموجب هذا والباعث عليه هو النصح الذي يجب علينا من حقكم، وقد قال تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 2. فاذكروا ما من الله به عليكم وخصكم به في هذا الزمان من نعمة الدين، التي هي أشرف النعم وأجلها، وما حصل في ضمنها من المصالح التي لا تعد ولا تحصى. وقد أخبر الله تعالى عن كليمه موسى عليه السلام أنه ذكر قومه هذه النعمة كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} 3 الآية.
فذكرهم أولا بالنعمة العظمى، وهي أن جعل فيهم أنبياء يرشدونهم إلى ما فيه صلاحهم وخلاصهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
وقد امتن الله سبحانه على عباده في كتابه بهذه النعمة، وذكرهم بها في مواضع كما قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 4.
1 سورة المائدة آية: 20.
2 سورة الذاريات آية: 55.
3 سورة المائدة آية: 20.
4 سورة الجمعة آية: 2.
وأخبر عن مراده فيما شرعه في تحويل القبلة إلى بيته الحرام، وأن ذلك قد قصد به وأراد منه إتمام نعمته، وليحصل لهم الاهتداء، وذكرهم عند ذلك هذه النعم، وأنه فعل ذلك كما منَّ عليهم قبل بمبعث الرسول فقال:{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} 1.
[أعظم نعم الله هي إرساله الرسل]
فبعث الأنبياء، وإرسال الرسل هو الذي حصل به العلم النافع والعمل الصالح، كمعرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، والاستدلال بآياته ومخلوقاته، والقيام له بما أوجب على خلقه من العبادة والتوحيد، والعمل بما يرضي الرب ويريد، فإن بهذا تحصل زكاة العبد ونموه، وصلاحه وفلاحه، وسعادته في الدنيا والآخرة.
وفي ضمن تعليمه الكتاب والحكمة من تفاصيل العلوم والأعمال والمعارف، والأمثال الدالة على وحدانيته وقدرته ورحمته وعدله وفضله، وإعادته لخلقه وبعثه إياهم، ومجازاتهم على أعمالهم، وذكر أيامه في أنبيائه وأوليائه، وما فعل ويفعل بأعدائهم وأعدائه، وإخباره بإلحاق النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه، والمثل بالمثل، ما يوجب للعبد من العلم بالله، ومعرفة قدرته، وحكمته في أقداره، ومراده من شرعه وخلقه، وغير ذلك من الأحكام الكلية والجزئية ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه.
فما أنعم الله على أهل الأرض من نعمة إلا وهي دون نعمة إرسال الرسل وبعث النبيين، خصوصا رسالة محمد سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود، والحوض المورود، فإنه قد حصل برسالته من عموم الرحمة لكافة العالمين، ومن السعادة والفلاح، والتزكية والهدى والرشاد لمن اتبعه ما لم يحصل مثله، ولا قريب منه ببعث غيره من الأنبياء.
فمن كان له من قبول ما جاء به والإيمان به حظ ونصيب فعليه من شكر الله على هذه النعمة، وطاعته، وإدامة ذكره، والثناء بنعمه، ما ليس على من قل حظه ونصيبه من ذلك.
1 سورة البقرة آية: 151.
وقد منَّ الله عليكم -رحمكم الله- في هذا الزمن الذي غلبت فيه الجهالات، وفشت بين أهله الضلالات، والتحق بعصر الفترات، من يجدد لكم أمر هذا الدين، ويدعو إلى ما جاء به الرسول الأمين من الهدى الواضح المستبين، وهو شيخ الإسلام والمسلمين، ومجدد ما اندرس من معالم الملة والدين، الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-.
فبصر العدد العديد من العماية، وهدى بما دعا إليه من الضلالة، وأغنى بما فتح عليكم وعليه من العالة، وحصل من العلم ما يستبعد على أمثالكم في العادة، حتى ظهرت الحجة البيضاء، التي كان عليها صدر هذه الأمة وأئمتها في باب توحيد الله بإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، والإيمان بقدره وحكمه في أفعاله.
فإنه قرر ذلك، وتصدى رحمه الله للرد على من نكب عن هذا السبيل، واتبع سبل التحريف والتعطيل، على اختلاف نحلهم وبدعهم، وتشعب مقالاتهم وطرقهم، متبعا رحمه الله ما مضى عليه السلف الصالح من أهل العلم والإيمان، وما درج عليه القرون المفضلة بنص الحديث.
ولم يلتفت رحمه الله إلى ما عدا ذلك من قياس فلسفي، أو تعطيل جهمي، أو إلحاد حلولي أو اتحادي، أو تأويل معتزلي أو أشعري، فوضح معتقد السلف الصالح، بعد ما سفت عليه السوافي، وذرت عليه الذواري، وندر من يعرفه من أهل القرى والبوادي، إلا ما كان مع العامة من أصل الفطرة، فإنه قد يبقى ولو في زمن الغربة والفترة.
وتصدى أيضا للدعوة إلى ما يقتضيه هذا التوحيد وما يستلزمه، وهو وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله.
وقد عمت في زمنه البلوى بعبادة الأولياء والصالحين وغيرهم، وأطبق على ترك الإسلام جمهور أهل البسيطة، وفي كل مصر من الأمصار، وبلد من البلدان، وجهة من الجهات، من الآلهة والأنداد لرب العالمين ما لا يحصيه إلا الله، على اختلاف معبوداتهم، وتباين اعتقاداتهم.
فمنهم من يعبد الكواكب ويخاطبها
بالحوائج ويبخر لها التبخيرات، ويرى أنها تفيض عليه أو على العالم، وتقضي لهم الحاجات، وتدفع عنهم البليات. ومنهم من لا يرى ذلك ويكفر أهله ويتبرأ منهم، لكنه قد وقع في عبادة الأنبياء والصالحين، فاعتقد أنه يستغاث بهم في الشدائد والملمات، وأنهم هم الواسطة في إجابة الدعوات وتفريج الكربات؛ فتراه يصرف وجهه إليهم، ويسوي بينهم وبين الله في الحب والتعظيم والتوكل والاعتماد والدعاء والاستغاثة والاستعانة، وغير ذلك من أنواع العبادات.
[ما كانت عليه الجاهلية حين مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم]
وهذا هو دين جاهلية العرب الأولى، كما أن الأول هو دين الصابئة الكنعانيين، وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1.
وكانت العرب في وقته وزمن مبعثه معترفين لله بتوحيد الربوبية والأفعال، وكانوا على بقية من دين إبراهيم الخليل عليه السلام، قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 3 إلى قوله {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 4.
والآيات في المعنى كثيرة، ولكنهم أشركوا في توحيد العبادة والإلهية، فاتخذوا الشفعاء والوسائط من الملائكة والصالحين وغيرهم، وجعلوهم أندادا لله رب العالمين فيما يستحقه عليهم من العبادات، والإرادات كالحب والخضوع والتعظيم والإنابة والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادات والطاعات؛ لأجل جاههم عند الله، والتماس شفاعتهم، والاعتقاد والتدبير والتأثير كما ظنه بعض الجاهلين.
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 5 الآية، وقال:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} 6. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
1 سورة التوبة آية: 33.
2 سورة يونس آية: 31.
3 سورة المؤمنون آية: 84.
4 سورة المؤمنون آية: 89.
5 سورة يونس آية: 18.
6 سورة الزمر آية: 43.
زُلْفَى} 1 الآية. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الشرك، وكفر أهله، وجهلهم وسفه أحلامهم، ودعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وبين أن مدلولها الالتزام بعبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يعبدون من دون الله.
وهذا هو أصل الدين وقاعدته، ولهذا كانت هذه الكلمة كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، والفارق بين الكافر والمؤمن من الأنام، ولها جردت السيوف وشرع الجهاد، وامتاز الخبيث من طيب العباد، وبها حقنت الدماء وعصمت الأموال.
وقد بلغ الشيطان مراده من أكثر الخلق، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعه الأكثر، وتركوا ما جاءت به الرسل من دين الله الذي ارتضاه لنفسه، وتلطف الشيطان في التحيل والمكر والمكيدة، حتى أدخل الشرك وعبادة الصالحين وغيرهم على كثير ممن ينتسب إلى دين الإسلام في قالب محبة الصالحين والأنبياء، والتشفع بهم، وأن لهم جاها ومنزلة يشفع بها من دعاهم ولاذ بحماهم.
وأن من أقر لله وحده بالتدبير، واعتقد له بالتأثير والخلق والرزق فهو مسلم، ولو دعا غير الله، واستعاذ بغيره ولاذ بحماه، وأن مجرد شهادة أن لا إله إلا الله تكفي مثل هذا، وإن لم يقارنها علم ولا عمل ينتفع به، وأن الدعاء والاستغاثة والاستعانة والحب والتعظيم ونحو ذلك ليس بعبادة، وإنما العبادة السجود والركوع، ونحو هذه الزخرفة والمكيدة، وهذا بعينه هو الذي تقدمت حكايته عن جاهلية العرب.
[سبب حدوث الشرك في قوم نوح]
وذكر المفسرون وأهل التاريخ من أهل العلم في سبب حدوث الشرك في قوم نوح مثل هذه المكيدة، فإن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن ينصبوا تماثيلهم ويصوروا صورهم؛ ليكون ذلك أشوق إلى العبادة، وأنشط في الطاعة. فلما هلك من فعل هذا أوحى الشيطان إلى من بعدهم أن أسلافهم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم لذلك. فأصل الشرك هو تعظيم الصالحين بما لم يشرع، والغلو في ذلك.
1 سورة الزمر آية: 3.
فأتاح الله بمنه في هذه البلاد النجدية والجهات العربية من أحبار الإسلام وعلمائه الأعلام من يكشف الشبهة، ويجلو الغمة، وينصح الأمة، ويدعو إلى محض الحق وصريح الدين، الذي لا يخالطه ولا يمازجه دين الجاهلية المشركين، فنافح عن دين الله، ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنف الكتب والرسائل، وانتصب للرد على كل مبطل ومماحل، وعلم من لديه كيف يطلب العلم وأين يطلب، وبأي شيء يقهر المشبه المجادل ويغلب.
واجتمع له من عصابة الإسلام والإيمان طائفة يأخذون عنه، وينتفعون بعلمه، وينصرون الله ورسوله، حتى ظهر واستنار ما دعا إليه، وأشرقت شموس ما عنده من العلم وما لديه، وعلت كلمة الله حتى أغشى إشراقها وضوؤها كل مبطل ومماحل، وذل لها كل منافق مجادل. وحقق الله وعده لأوليائه وجنده كما قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} 1. وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 2 الآية.
[دعوة التوحيد في نجد]
فزال -بحمد الله- ما كان بنجد وما يليها من القباب، والمشاهد والمزارات والمغارات، وقطع الأشجار التي يتبرك بها العامة، وبعث السعاة لمحو آثار البدع الجاهلية، من الأوتاد والتعاليق والشركيات، وألزم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت وبسائر الواجبات. وحث من لديه من القضاة والمفتين على تجريد المتابعة لما صح وثبت عن سيد المرسلين، مع الاقتداء في ذلك بأئمة الدين، والسلف الصالح المهديين. ونهاهم عن ابتداع قول لم يسبقهم إليه إمام يقتدى به، أو علم يهتدى به.
وأنكر ما كان عليه الناس في تلك البلاد وغيرها من تعظيم الموالد والأعياد الجاهلية التي لم ينْزل في تعظيمها سلطان، ولم يرد به حجة شرعية ولا برهان، لأن ذلك فيه مشابهة للنصارى الضالين، في أعيادهم الزمانية والمكانية ما هو باطل مردود في شرع سيد المرسلين.
1 سورة غافر آية: 51.
2 سورة النور آية: 55.
وكذلك أنكر ما أحدثه جهلة المتصوفة، وضلال المبتدعة من التدين والتعبد باللهو واللعب والمكاء والتصدية، والأغاني التي صدهم بها الشيطان عن سماع آيات القرآن، وصاروا بها من أشباه عباد الأوثان، الذين قال الله فيهم:{وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} 1. وكل من عرف ما جاء به الرسول تبين له أن هؤلاء من أضل الفرق وأخبثهم نحلة وطريقة، والغالب على كثير منهم النفاق، وكراهة سماع كلام الله ورسوله.
[هدم الشرك وآثاره في نجد]
وأنكر رحمه الله ما أحدثته العوام والطغام من اعتقاد البركة والصلاح في أناس من الفجار والطواغيت، الذين يترشحون لتأله العباد بهم، وصرف قلوبهم إليهم باسم الولاية والصلاح، وأن لهم كرامات ومقامات، ونحو هذا من الجهالات، فإن هؤلاء من أضر الناس على أديان العامة.
وأنكر رحمه الله ما يعتقده العامة في البله والمجاذيب وأشباههم، الذين أحسن أحوال أحدهم أن يرفع عنه القلم ويلحق بالمجانين.
وأرشد رحمه الله إلى ما دل عليه الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. وساق الأدلة الشرعية التي يتميز بها كل فريق، ويعتمدها أهل الإيمان والتحقيق.
فإن الله -جل ذكره- وصف الأبرار ونعتهم بما يمتازون به ويعرفون، بحيث لا يخفى حالهم ولا يلتبس أمرهم، وكذلك وصف تعالى أولياء الشيطان من الكفار والفجار، ونعتهم بما لا يخفى معه حالهم، ولا يلتبس أمرهم على من له أدنى نظر في العلم وحظ من الإيمان.
وكذلك قام بالنكير على أجلاف البوادي، وأمراء القرى والنواحي، فيما يتجاسرون عليه ويفعلونه من قطع السبيل، وسفك الدماء، ونهب الأموال المعصومة، حتى ظهر العدل واستقر، وفشا الدين واستمر، والتزمه كل من كانت عليه الولاية من البلاد النجدية وغيرها، والحمد لله على ذلك.
1 سورة الأنفال آية: 35.
والتذكير بهذا يدخل فيما امتن الله به على المؤمنين وذكرهموه من بعث الأنبياء والرسل.
ومدار العبادة والتوحيد على ركنين عظيمين هما الحب والتعظيم. وبمشاهدة النعمة يحصل ذلك، ويخبت القلب لطاعة من أنعم بها عليه، وكلما: ازداد العبد علما بذلك، ومعرفة لحقيقة النعمة ومقدارها، ازداد طاعة ومحبة وإنابة وإخباتا وتوكلا، ولذلك يذكر تعالى عباده بنعمه الخاصة والعامة، وآلائه الظاهرة والباطنة، ويحث على التفكر في ذلك والتذكر، وأن يعقل العبد عن ربه، فيقوم بشكره ويؤدي حقه.
ومبنى الشكر على ثلاثة أركان: معرفة النعمة وقدرها، والثناء بها على مسديها، واستعمالها فيما يحب موليها ومعطيها. فمن كملت له هذه الثلاث فقد استكمل الشكر، وكلما نقص العبد منها شيئا فهو نقص في إيمانه وشكره، وقد لا يبقى معه من الشكر ما يعتد به ويثاب عليه.
والمقصود أن الذكرى فيها من المصالح الدينية والشعب الإيمانية ما هو أصل كل فلاح وخير.
وبدأ في هذه الآية بأعظم النعم وأجلها على الإطلاق، وهو جعله الأنبياء فيهم يخبرونهم عن الله بما يحصل لهم به السعادة الكبرى، والمنة الجليلة العظمى، وكل خير حصل في الأرض من ذلك فأصله مأخوذ عن الرسل والأنبياء، إذ هم الأئمة الدعاة الأمناء، وأهل العلم عليهم البلاغ، ونقل ذلك إلى الأمة؛ فإنهم واسطة في إبلاغ العلم ونقله.
[معنى قوله تعالى {وَجَعَلَكُم مُلُوكًا}]
وأما قوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} 1 فهذه نعمة جليلة يجب شكرها، وتتعين رعايتها؛ فإنها من أفضل النعم وأجلها. والشكر قيد النعمة، إن شكرت قرت، وإن كفرت فرت. ولم تحصل هذه النعمة إلا باتباع الأنبياء وطاعة الرسل، فإن بني إسرائيل إنما صاروا ملوك الأرض بعد فرعون وقومه باتباع موسى، وطاعة الله ورسوله والصبر على ذلك، قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
1 سورة المائدة آية: 20.
مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} 1.
وقد حصل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم لمن آمن به من العرب الأميين، وغيرهم من أجناس الآدميين من الملك وميراث الأرض فوق ما حصل لبني إسرائيل، فإنهم ملكوا الدنيا من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وحملت إليهم كنوز كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، وصارت بلادهم وبلاد المغرب والمشرق ولاية لهم، ورعية تنفذ فيهم أحكامهم، ويجبى إليهم خراجهم.
ومكثوا على ذلك ظاهرين قاهرين لمن سواهم من الأمم، حتى وقع فيهم ما وقع في بني إسرائيل من الخروج عن اتباع الأنبياء، وترك سياستهم، والانهماك في أهوائهم وشهواتهم، فجاء الخلل، وسلط العدو، وتشتت الناس، وتفرقت الكلمة، وصارت الدول الإسلامية يسوسها في كثير من البلاد وفي أوقات كثيرة من الملوك أهل النفاق والزندقة والكفر والإلحاد، الذين لا يبالون بسياسات الأنبياء وما جاؤوا به من عند الله، وربما قصدوا معاكستهم.
فذهب الملك بذلك، وضاعت الأمانة، وفشا الظلم والخيانة، وصار بأسهم بينهم، وسلط عليهم العدو، وأخذ كثيرا من البلاد. ولم يقنع منهم إبليس عدو الله بهذا حتى أوقع كثيرا منهم في البدع والشرك، وسعى في محو الإسلام بالكلية.
وكلما بعد عهد الناس بالعلم وآثار الرسالة، ونقص تمسكهم بعهود أنبيائهم، تمكن الشيطان من مراده في أديانهم ونحلهم واعتقاداتهم؛ ولكن من رحمة الله ومنته جعل في هذه الأمة بقية، وطائفة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
وكلما حصل لهذه الطائفة قوة وسلطان في وجهة أو بلد، حصل من الملك والعز والظهور لهم بقدر تمسكهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك صار لشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولطائفته وأنصاره من الملك والظهور والنصر بحسب نصيبهم
1 سورة الأعراف آية: 137.
وحظهم من متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتمسك بدينه، فقهروا جمهور العرب من الشام إلى عمان، ومن الحيرة إلى اليمن.
وكلما كان أتباعهم وأنصارهم أقوى تمسكا كانوا أعز وأظهر، وربما نال منهم العدو وحصل عليهم من المصائب ما تقتضيه الذنوب والمخالفة، والخروج عن متابعة نبيهم، وما يعفو الله من ذلك أكثر وأعظم.
[كل خير حصل للناس فهو باتباع الرسول]
والمقصود أن كل خير ونصر حصل، وعز وسرور اتصل، فهو بسبب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم أمره في الفروع والأصول، وقد منَّ الله عليكم في هذه الأوقات بما لم يعطه سواكم في غالب البلاد والجهات، من النعم الدينية والدنيوية، والأمن في الأوطان.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروا نعمه يزدكم، و {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 1 بمعرفة الله، ومحبته وطاعته وتعظيمه، وتعليم أصول الدين، وتعظيم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر والنهي والتزامه، والمحافظة على توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الفواحش الباطنة والظاهرة، وسد الوسائل التي توقع في المحذور، وتفضي إلى ارتكاب الآثام والشرور.
ويجمع ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2.
والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم بسلوك سبيله، وأن يجعلنا ممن عرف الهدى بدليله، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 سورة التحريم آية: 6.
2 سورة النحل آية: 90.