الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخشاب ونحوها، مأخوذة من أرضيت الخشبة: أكلتها الأرضة، ويقال: أرضيت الأرضة الخشبة أرضا. {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} عصاه؛ لأنها ينسأ بها، أي يطرد ويزجر بها. {فَلَمّا خَرَّ} سقط ميتا. {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} انكشف لهم. {أَنْ لَوْ كانُوا} {أَنْ}: مخففة من الثقيلة، أي أنهم.
{يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} كما زعموا، لعلموا بموته. {ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ} ما أقاموا في الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها، لظنهم حياته. قيل: وقد أرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت يوما وليلة مقدارا، فحسبوا ذلك، فوجدوه قد مات منذ سنة، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة، وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. وقال كما ذكر الماوردي بعد الانتهاء من بناء المسجد الأقصى:«اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه، ولا خائف إلا أمّنته، ولا سقيم إلا شفيته، ولا فقير إلا أغنيته، والخامس: ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه إلا من أراد إلحادا أو ظلما، يا ربّ العالمين» .
المناسبة:
بعد بيان ما أنعم الله به على داود عليه السلام من النبوة والملك، ذكر تعالى ما أنعم به على سليمان من تسخير الريح له، حيث كانت تجري من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر، وإذابة النحاس كإذابة الحديد لأبيه داود، وتسخير الجن لبناء القصور الشامخة وصناعة الجفان الكبيرة كالأحواض، والقدور الثابتة التي لا تتحرك لسعتها وكبرها. وهذه الأشياء الثلاثة تقابل الثلاثة في حقّ داود وهي تسخير الجبال الذي هو من جنس تسخير الريح لسليمان، وتسخير الطير الذي هو من جنس تسخير الجن لسليمان، وإلانة الحديد كإلانة النحاس لسليمان.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى في هذه الآيات نعما ثلاثا كبري أنعم بها على سليمان عليه السلام وهي:
1 -
تسخير الريح: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ، غُدُوُّها شَهْرٌ، وَرَواحُها شَهْرٌ}
أي وسخّرنا لسليمان الريح التي كانت تحمل بساطا له غدوها (أي سيرها وقت الغداة من أول النهار إلى منتصف النهار) مسيرة شهر، ورواحها (جريانها وقت الرواح من منتصف النهار إلى الغروب) مسيرة شهر.
قال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق، فينزل بإصطخر يتغدى بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل (في أفغانستان) وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.
2 -
إذابة النحاس: {وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي وأذبنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود، فكان يصنع منه ما يشاء دون نار ولا مطرقة. وسمي عينا، لأنه سال من معدنه سيلان الماء من الينبوع.
3 -
تسخير الجن: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ} أي وسخرنا له من الجن من يعمل لديه من المحاريب وغيرها، بأمر ربّه وقدرته وتيسيره وتسخيره إياهم لسليمان، ومن يعدل ويخرج منهم عن طاعة سليمان نذقه عذابا أليما من الحريق في الدنيا، أو من عذاب النار في الآخرة.
{يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ، وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ} أي يعمل الجن لسليمان ما يريد من الأبنية الرفيعة والقصور العالية والمساجد والصور المجسمة المصنوعة من النحاس أو الزجاج أو الرخام ونحوها، والصحاف أو القصاع الكبيرة التي تكفي لعدد كبير من الناس وتشبه حياض الإبل، والقدور الثابتات في أماكنها، لا تتحرك ولا تتحول عن مواضعها لعظمها وثقلها.
{اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} أي وقلنا: اعملوا يا آل داود بطاعة الله، شكرا له على ما آتاكم من النعم في الدين والدنيا، وقليل
من عبادي من يشكرني، فيستعمل جميع جوارحه فيما خلقت له من المنافع المباحة. والشكور: هو الذي يشكر في جميع أحواله من الخير والضرّ. كما قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ} [ص 24/ 38] وهذا إخبار عن الواقع.
ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ أحبّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وأحبّ الصيام إلى الله تعالى صيام داود، كان يصوم يوما، ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى» .
وأخرج مسلم في صحيحة عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطّر قدماه، فقلت له: أتصنع هذا، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدا شكورا» .
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فتلا هذه الآية، ثم قال:«ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود، فقلنا: ما هنّ؟ فقال: العدل في الرّضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السّرّ والعلانية» .
ومع هذه النعم وعظمة سليمان عليه السلام ذكر تعالى كيفية موته وتعميته على الجن المسخرين له في الأعمال الشاقة، فقال:
{فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ، ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ} أي فلما حكمنا على سليمان بالموت وألزمناه إياه، مات، وهو قائم متكئ على عصاه، ولم تعلم الجن بموته، وبقوا يعملون خوفا منه، ولم يدلّهم على موته إلا الأرضة التي أكلت عصاه من الداخل، فلما سقط بعد ما وقعت عصاه، ظهر للجن أنهم