الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد بيان أن الأصنام ونحوها من الآلهة المزعومة لا يملكون شيئا في الكون، أبان الله تعالى أن المشركين يعترفون بأن الرازق من السماء والأرض بما ينزل من المطر وينبت من الزرع ويوجد من المعادن هو الله، فيلزمهم أن يعتقدوا بأنه لا إله غيره، وأن المحق واحد من الفريقين وغيره مبطل، والمحق هم المؤمنون لقيام الدليل على التوحيد، وأن يعلموا أن الله هو الحاكم بالحق يوم القيامة، وأنه هو الخالق الرازق، أما الشركاء فلا يخلقون ولا يرزقون.
التفسير والبيان:
{قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قُلِ: اللهُ} أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين عبدة الأوثان والأصنام على سبيل التوبيخ والتبكيت: من الرازق لكم من السموات بإنزال المطر، ومن الأرض بالنبات والمعادن ونحوها؟ قل لهم: هو الله الذي يرزقكم، إن لم يجيبوا، بل لا جواب لهم سواه، وقد أجابوا فعلا في آيات أخرى بأنه هو الله، قال تعالى:{قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ: اللهُ، فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس 31/ 10].
وإذا اعترفتم بأن الله هو الرازق، فلم تعبدون سواه ممن لا يقدر على الرزق؟ كما قال تعالى تبكيتا وتعنيفا لهم:{قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلِ: اللهُ، قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا} [الرعد 16/ 13].
ثم دعاهم الله تعالى إلى الإيمان بالله بطريق التلطف، بعد هذا الإلزام القائم مقام الاعتراف والإقرار، فقال:
{وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: إن أحد الفريقين منا، سواء معشر المؤمنين الموحدين الله الخالق الرازق، الذين يخصونه بالعبادة، أو المشركين الذين يعبدون الجمادات العاجزة عن الخلق والرزق والنفع والضرر، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو في الضلال البيّن الوضح، فلا سبيل إلى تصويب كل منا، فإما أن نكون نحن أو أنتم على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، والآخر مخطئ مبطل. وهذا أسلوب فيه لطف وأدب، لاستدراج الخصم إلى أن ينظر في حاله وحال غيره، ويستعمله العرب لإعطاء الحرية للمخاطب بأن يتأمل ويعلن عن قناعة أنه مخطئ وغيره مصيب، كما يقول الرجل لصاحبه: قد علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب.
ويلاحظ أنه ذكر كلمة «على» مع الهدى، وكلمة «في» مع الضلال؛ لأن المهتدي كأنه مرتفع متطلع، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها. ووصف الضلال بالمبين، ولم يصف الهدى؛ لأن الهدى هو الطريق المستقيم الموصل إلى الحق، والمستقيم واحد، وغيره كله ضلال، بعضه أبين من بعض. وقدم الهدى على الضلال لمناسبته لوصف المؤمنين المبدوء بكلمة {إِنّا} المقدم في الذكر.
ثم أعلن الله تعالى وجود الانفصال بين الفريقين واستقلال كل منهما عن الآخر بطريق التلطف مرة أخرى بنسبة الاجرام فرضا إلى المؤمنين والعمل للمشركين فقال: {قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ} أي قل أيها الرسول أيضا للمشركين: إن كانت عبادتنا لله وطاعتنا له جريمة، فلستم مسئولين عنا، ولا نسأل عما تعملون من خير أو شر. وهذا معناه التبري منهم، فلستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى توحيد الله وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا، ونحن منكم، وإن أعرضتم وكذبتم فنحن برآء منكم، وأنتم برآء منا، كما قال الله تعالى:{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ} [يونس 41/ 10]. وقد أضاف الاجرام إلى النفس:
{أَجْرَمْنا} وقال في حقهم {عَمّا تَعْمَلُونَ} لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم.
ثم أنذرهم الله تعالى بالقضاء والحكم الذي سيقضي به، تأكيدا للنظر والتفكر، في مجال الحساب والثواب والعذاب، فقال:
{قُلْ: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ} أي قل لهم أيها الرسول أيضا. إن ربنا سيجمع بيننا في ساحة واحدة يوم الحساب، ويوم القيامة، ثم يحكم ويقضي بيننا بالحق والعدل، والله هو الحاكم العادل القاضي بالصواب، العالم بحقائق الأحوال والأمور، وبما يتعلق بحكمه من المصالح، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ} [الروم 14/ 30 - 16].
ثم تحداهم تعالى بالكشف عن الشركاء وقدراتهم، فقال:
{قُلْ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ، كَلاّ، بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين قولا فصلا: أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا، وصيرتموها شركاء ونظراء معادلين لله، حتى أراهم، وأرى ما يقدرون عليه. الحق واضح، والأمر ليس كما تزعمون، كلا أي فارتدعوا عن ادعاء المشاركة، فلا نظير ولا شريك ولا عديل لله، بل هو الله الواحد الأحد، المتفرد بالألوهية، الذي لا شريك له، ذو العزة التي قد قهر بها كل شيء، وغلب كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، حكمة باهرة لا يعلوها شيء. وهذا التساؤل يراد به بيان فائدة الشركاء في دفع الضرر، بعد إبطال فائدتها بآية
{قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} لجلب المنفعة، تمشيا مع أهداف العامة الذين لا يعبدون المعبود إلا لدفع الضرر أو لجلب المنفعة، أما الخواص فيعبدون الله لأنه يستحق العبادة لذاته.
وبعد إثبات التوحيد، أبان الله تعالى عموم الرسالة المحمدية للناس جميعا، فليست ذات نزعة عنصرية، ولا حكرا على العرب وحدهم، فقال تعالى:{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي وما أرسلناك أيها النبي لقومك العرب خاصة، بل أرسلناك للناس قاطبة، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم وأحمرهم، مبشرا من أطاع الله بالجنة، ومنذرا من عصاه بالنار، كما قال تعالى:{قُلْ: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف 158/ 7] وقال سبحانه: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان 1/ 25].
وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي.. وذكر منها: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» .
وفي الصحيح أيضا: «بعثت إلى الأسود والأحمر» .
إلا أن أكثر الناس لا يعلمون بعموم الرسالة، ولا بمهمة التبشير والإنذار، ولا بخطورة ما هم عليه من الضلال والجهالة، ولا بالنفع في إرسال الرسل، ولا ما عند الله من الجزاء، كما قال تعالى:{وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف 103/ 12] وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام 116/ 6].
وبعد بيان التوحيد ثم الرسالة، ذكر الحشر، فأخبر تعالى عن استبعاد الكفار قيام الساعة وأجاب عنه، فقال:
{وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي ويقول المشركون