الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت:{يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إلى قوله: {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
نزول الآية (8):
{إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً} : أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا لأفعلن، فأنزل الله:{إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً} إلى قوله: {لا يُبْصِرُونَ} فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر.
نزول الآية (12):
{إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى} :
أخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النّقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه:{إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن آثاركم تكتب، فلا تنتقلوا» . وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله.
وأخرج عبد الرزاق عن أبي سعيد قال: شكت بنو سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى:{وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم منازلكم، فإنما تكتب آثاركم» .
التفسير والبيان:
{يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي
أقسم بالقرآن ذي الحكمة البالغة، المحكم بنظمه ومعناه بأنك يا محمد لرسول من عند الله على منهج سليم، ودين قويم، وشرع مستقيم لا عوج فيه.
وفي هذا إشارة إلى أن القرآن هو المعجزة الباقية، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، صادق في نبوته، ومرسل برسالة دائمة من عند ربه.
{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي هذا القرآن والدين والصراط الذي جئت به تنزيل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى 52/ 42 - 53].
وهذا دليل واضح على مكانة القرآن وأنه أجل نعمة من نعم الرحمن.
{لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، فَهُمْ غافِلُونَ} أي أرسلناك أيها النبي لتنذر العرب الذين لم يأتهم رسول نذير من قبلك، ولم يأت آباءهم الأقربين من ينذرهم ويعرّفهم شرائع الله تعالى، فهم غافلون عن معرفة الحق والنور والشرائع التي تسعد البشر في الدارين.
لكنّ ذكرهم وحدهم هنا للعناية بهم وتوجيه الخطاب لهم: لا ينفي كونه مرسلا إلى الناس كافة، بدليل الآيات والأحاديث المتواترة المعروفة في عموم بعثته صلى الله عليه وسلم، مثل قوله تعالى:{قُلْ: يا أَيُّهَا النّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف 158/ 7]
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر:
«وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» .
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي لقد وجب العذاب على أكثر أهل مكة، وهو ما سجّل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم الذين علم الله أنهم يموتون على الكفر، ويصرون عليه طوال حياتهم.
والمراد بالقول: الحكم والقضاء الأزلي، وهو سبق علم الله بنهاياتهم، لا بطريق الجبر والإلجاء، بل باختيارهم وإصرارهم على الكفر، وفي هذا تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يجزع ولا يأسف على عدم إيمانهم به.
ثم ضرب الله تعالى مثلا لتصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى إيمانهم، فقال:
{إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً، فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} أي إنا جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالقيود، تمنعهم من فعل شيء، فصاروا مرفوعي الرؤوس خافضي الأبصار. وهذا يعني أن الله جعلهم كالمغلولين المقمحين (الرافعي رؤوسهم الغاضي أبصارهم) في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يوجهون أنظارهم نحوه، وهم أيضا كالقائمين بين سدين، لا يبصرون أمامهم ولا خلفهم، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله، كما قال:
{وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي تأكيدا لما سبق في تصوير حالتهم أنهم بتعاليهم عن النظر في آيات الله جعلوا كمن أحاط به سدان من الأمام والخلف، فمنعاه من النظر، فهو لا يبصر شيئا، وهؤلاء لا ينتفعون بخير، ولا يهتدون إليه؛ لأنا غطينا أبصارهم عن الحق.
وهذا مثل صائب لأهل الجهالة والتخلف والبدائية الذين حجبوا مداركهم وأبصارهم عن التأمل في معطيات المدنية والتقدم والحضارة، وهو تمثيل رائع للسد الإلهي المعنوي بالسد الحاجز المادي الحسي.
ونتيجة لما سبق:
{وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي إن إنذارك لهؤلاء المصرين على كفرهم وعدمه سواء، فلا ينفعهم الإنذار، ما داموا غير مستعدين
لقبول الحق، والخضوع لنداء الله، والنظر في الدلائل الدالة على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والتأمل في عجائب الكون المشاهدة الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته.
أما نفع الإنذار، فهو كما ذكر تعالى:
{إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي إنما ينفع إنذارك الذين آمنوا بالقرآن العظيم واتبعوا أحكامه وشرائعه، وخافوا عقاب الله قبل حدوثه ومعاينة أهواله، أو خشوا الله قبل رؤيته، فهؤلاء بشرهم بمغفرة لذنوبهم، ورضوان من الله، وأجر كريم ونعيم مقيم هو الجنة. ونظير الآية:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك 12/ 67].
ثم أكد الله تعالى حصول الجزاء للمؤمنين وغيرهم، فقال:
{إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى، وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ} أي إننا قادرون فعلا على إحياء الموتى، وبعثهم أحياء من قبورهم، ونحن الذين ندوّن لهم كل ما قدموه وأسلفوه من عمل صالح أو سيء، وتركوا من أثر طيب أو خبيث، أي نكتب ونسجل أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها وخلفوها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فمن عمل على نشر الفضيلة جوزي بها، ومن عمد إلى نشر الرذيلة والسوء في الملاهي أو الكتب الخليعة يحاسب عليها.
وهذا
كقوله صلى الله عليه وسلم-فيما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي-: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» .