الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يعلمون الغيب كما زعموا، ولو صحّ ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب، لعلموا بموته وهو أمامهم، ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العمل الشاق الذي سخرهم فيه، ظانين أنه حيّ. أما المدة التي مكث فيها سليمان متكئا على عصاه فلم يرد خبر صحيح في شأنها، ونترك الأمر في تقديرها لله عز وجل، وربما يستأنس
بالحديث المرفوع الذي رواه إبراهيم بن طهمان عن ابن عباس وفيه: «أن سليمان نحت عصا الخرنوبة، فتوكأ عليها حولا لا يعلمون، فسقطت، فعلم الإنس أن الجنّ لا يعلمون الغيب، فنظروا مقدار ذلك، فوجدوه سنة»
(1)
.
قال الرازي: وقوله: {ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ} دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير؛ لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين
(2)
.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
1 -
امتنّ الله تعالى على سليمان عليه السلام بما أنعم عليه من النعم الجليلة أهمها ثلاث: تسخير الريح، وإذابة النحاس، وتسخير الجنّ للعمل بأمره.
أما تسخير الريح فكانت تحمل بساطه تنقله من مكان إلى آخر، فتقطع مسافة في نصف يوم تقدر بمسيرة شهر للمسافر العادي، وهذا معنى:{غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ} .
2 -
والنعمة الثانية هي إذابة النحاس في يده.
(1)
تفسير القرطبي: 279/ 14
(2)
تفسير الرازي: 250/ 25
قال القرطبي: والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدنه عينا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته
(1)
.
3 -
والنعمة الثالثة هي تسخير الجنّ له شغلة عملة لمختلف الحرف والصناعات الثقيلة، من المساجد والقصور الشامخة، والقصاع الكبيرة كحياض الإبل وقدور النحاس الثوابت التي لا تحرك لعظمها. والتماثيل: وهي كل ما صوّر على مثل صورة من حيوان أو غيره. ذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس، فيزدادوا عبادة واجتهادا،
قال صلى الله عليه وسلم: «إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصّور» أي ليتذكروا عبادتهم، فيجتهدوا في العبادة.
والآية صريحة في أن نبي الله سليمان عليه السلام كان يتخذ التماثيل. وهذا يدلّ على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ونسخ جوازه بشرع محمد صلى الله عليه وسلم. وعلة النسخ سد الذّرائع ومحاربة ما كانت العرب تفعله من عبادة الأوثان والأصنام، كما أن التعظيم لا يكون لغير الله تعالى.
ذكر ابن العربي خمسة أحاديث في منع التصوير، منها
ما رواه مسلم عن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» زاد زيد بن خالد الجهني: «إلا ما كان رقما في ثوب» ثم ثبتت كراهية الرّقم أيضا ونسخه المنع منه في أحاديث أخرى، فاستقرّ الأمر فيه على المنع كما ذكر القرطبي، ومنها:
ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود وابن عباس: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون»
ومنها ما رواه مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«حوّلي هذا، فإني كلما دخلت، فرأيته ذكرت الدنيا»
وعنها
(1)
تفسير القرطبي: 270/ 14
قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام
(1)
فيه صورة، فتلوّن وجهه، ثم تناول السّتر فهتكه، ثم قال:«إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبّهون بخلق الله عز وجل» .
هذا ما يراه ابن العربي والقرطبي
(2)
في أن المنع من التصوير عام، ثم استثنيت منه أشياء، مثل لعب البنات، بالحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها. واستبعد جماعة من العلماء هذا الاتجاه؛ لأن النسخ يشترط فيه العلم بالتاريخ، والأولى في الجمع بين الأحاديث: أن يقال: تحمل النصوص التي فيها الحظر بإطلاق على ما كان منها مجسدا لذي روح، بدليل
حديث «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله»
ومن طريق آخر: «يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» فيكون المنع متجها إلى صور الأجسام ذات الروح إذا كانت على حالة بحيث يمكن أن يقال: إن صاحبها يضاهي بها خلق الله، وذلك إذا كانت كاملة الخلق، بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح.
وأما حديث الأمر بتحويل السّتر الذي فيه تمثال طائر، فلاستقبال المارة له، مما يشعر بتعظيمه، فإذا وضع للاستعمال فلا بأس.
أما تصوير الجمادات، كالجبال والأنهار، والأشجار ونحوها، فليست مما يتناولها النص بإشارة:
«يشبّهون خلق الله» وبإشارة
وكذلك كل ما وضع في حالة لا تشعر بالتعظيم كالاستعمال في الأرض لا يكون ممنوعا.
(1)
القرام: السّتر الرقيق.
(2)
أحكام القرآن لابن العربي: 1589/ 4 - 1590، تفسير القرطبي: 272/ 14 - 274
هذا وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري آراء العلماء في اتخاذ الصور، نقلا عن ابن العربي، وهي أن اتخاذ الصور ذات الأجسام أو ذات الظل لكل ما فيه روح من إنسان أو حيوان حرام بالإجماع إلا لعب البنات. أما الرّقم على الثياب ففيه أربعة أقوال:
الأول-يجوز مطلقا، عملا
بحديث: «إلا رقما في ثوب» .
الثاني-المنع مطلقا.
الثالث-إن كانت الصورة باقية الهيئة، قائمة الشكل، حرم، وإن كانت مقطوعة الرأس أو تفرقت الأجزاء، جاز، قال: وهذا هو الأصح.
الرابع-إن كانت مما يمتهن جاز، وإلا لم يجز.
وأجاز جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب اتخاذ الصور إذا كانت مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالمخاد والوسائد.
أما التصوير الشمسي أو الفوتوغرافي فحكمه حكم الرقم في الثوب، وهذا مستثنى بالنّص، بل إن هذا في الحقيقة ليس تصويرا بالمعنى الذي جاءت به الأحاديث بل حبس للصورة أو الظل، فيكون مثل الصورة في المرآة أو الماء، وليس فيه محاكاة صنع الخالق أو تشبيه خلق الله تعالى.
4 -
أمر الله آل داود بشكره، وأخبر أن الشاكرين من عبادة قلة قليلة، مما يدل على وجوب شكر الله تعالى على ما أنعم على الإنسان، وحقيقة الشكر:
الاعتراف بالنعمة للمنعم، واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية.
وظاهر القرآن والسّنّة: أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان، فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر بالأقوال عمل اللسان.