الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى} هو حبيب بن موسى النجار، كان قد آمن بالرسل أصحاب عيسى، ومنزله بأقصى البلد أي أبعد مواضعها، قال قتادة:«كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى» أي يشتد عدوا لما سمع بتكذيب القوم للرسل. {وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} المعنى: أيّ مانع يمنعني من عبادة الذي خلقني، وكذلك أنتم، ما لكم لا تعبدون الله الذي خلقكم؟! {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الموت، فيجازيكم بكفركم.
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} استفهام بمعنى النفي، أي لن أتخذ من غير الله الهة هي الأصنام، فأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني. {لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً} أي لا تفيدني شيئا من النفع، كائنا ما كان. {وَلا يُنْقِذُونِ} لا يخلصوني من الضر الذي أرادني الرحمن به. {إِنِّي إِذاً} أي: إذا اتخذت من دونه آلهة. {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} واضح، وهذا تعريض بهم. {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} آمنت بالذي خلقكم، فاسمعوا إيماني، فرجموه فمات. وهذا تصريح بعد التعريض تشددا في الحق.
{قِيلَ: اُدْخُلِ الْجَنَّةَ} قيل له عند موته: ادخل الجنة، تكريما له بدخولها بعد قتله، كما هي سنة الله في الشهداء. {قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} تمنى أن يعلموا بحاله، ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته، فيؤمنوا مثل إيمانه.
المناسبة:
بعد بيان حال مشركي العرب الذين أصروا على الكفر، ضرب الحق تعالى لهم مثلا يشبه حالهم في الإفراط والغلو في الكفر وتكذيب الدعاة إلى الله، وهو حال أهل قرية أنطاكية شمال سورية على ساحل البحر المتوسط الذين كذبوا الرسل فدمرهم الله بصيحة واحدة، فإذا استمر المشركون على عنادهم واستكبارهم، كان إهلاكهم يسيرا كأهل هذه القرية، وتكون قصتهم مع رسل الله، كقصة قوم النبي صلى الله عليه وسلم معه.
التفسير والبيان:
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} أي واضرب مثلا في الغلو والعناد والكفر يا محمد لقومك الذين كذبوك بأهل قرية أنطاكية، حين
أرسل الله إليهم ثلاثة رسل من أصحاب عيسى عليه السلام الحواريين فكذبوهم، كما كذبك قومك عنادا، وأصر الفريقان على التكذيب.
والقرية: أنطاكية في رأي جميع المفسرين، والمرسلون: أصحاب عيسى أرسلهم مقررين لشريعته، في رأي ابن عباس وكثير من المفسرين.
ثم بيّن عدد الرسل فقال:
{إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما، فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ، فَقالُوا: إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} أي حين أرسلنا إليهم رسولين، أرسلهما عيسى عليه السلام بأمر الله تعالى، فبادروا إلى تكذيبهما في الرسالة، فأيدناهما وقويناهما برسول ثالث، فقالوا لأهل تلك القرية: إنا مرسلون إليكم من ربكم الذي خلقكم بأن تعبدوه وحده لا شريك له، وتتركوا عبادة الأصنام.
وكان الرسولان الأولان يوحنا وبولص، والرسول الثالث شمعون وقيل: إنه بولص.
فتمسكوا كغيرهم من الأمم بشبهة البشرية، كما حكى تعالى:
{قالُوا: ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ} أي قال أصحاب القرية للرسل الثلاثة: أنتم مثلنا بشر تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق، فمن أين لكم وجود مزية تختصون بها علينا، وتدّعون الرسالة؟ والله الرحمن لم ينزل إليكم رسالة ولا كتابا مما تدّعون، ويدّعيه غيركم من الرسل وأتباعهم، وما أنتم فيما تدّعون الرسالة إلا كاذبون.
وقولهم: {ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ} دليل على اعترافهم بوجود الله، لكنهم ينكرون الرسالة، ويعبدون الأصنام وسائل إلى الله تعالى.
وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله:
{ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟} [التغابن 6/ 64] أي تعجبوا من ذلك وأنكروه. وقوله تعالى: {قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم 10/ 14].
فأجابهم الرسل:
{قالُوا: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين:
الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه، لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزّنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار؟ كقوله تعالى:
ثم ذكر الرسل مهمتهم:
{وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، ولا يجب علينا إلا تبليغ الرسالة بنحو واضح، فإذا استجبتم كانت لكم سعادة الدارين، وإن لم تجيبوا فستعلمون عاقبة تكذيبكم.
فعند ذلك هددهم أهل القرية:
{قالُوا: إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ} أي قال لهم أهل القرية: إنا تشاءمنا بكم، ولم نر خيرا في عيشنا على وجوهكم، فقد فرقتمونا وأوقعتم الخلاف فيما بيننا، ولئن لم تتركوا هذه الدعوة، وتعرضوا عن هذه المقالة، لنرجمنكم بالحجارة، وليصيبنكم منا عذاب مؤلم أو عقوبة شديدة. وقوله:{وَلَيَمَسَّنَّكُمْ} بيان للرجم، يعني: ولا يكون الرجم رجما قليلا بحجر أو حجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت، وهو عذاب أليم. ويرى
بعضهم أن الواو بمعنى (أو) والمراد: إما أن نقتلكم أو نسجنكم ونعذبكم في السجون.
فأجابهم الرسل:
{قالُوا: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي قالت لهم رسلهم: شؤمكم مردود عليكم، وهو معكم ومنكم، فسبب الشؤم هو تكذيبكم وكفركم، لا نحن، أمن أجل تذكيركم وأمرنا إياكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، ادعيتم أن فينا الشؤم عليكم، وتوعدتمونا وهددتمونا؟ بل الحق أنكم قوم جاوزتم الحد في مخالفة الحق، وأسرفتم في الضلال، وتماديتم في الغي والعناد.
وهذا الموقف مشابه لموقف قوم فرعون: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} [الأعراف 131/ 7] ومماثل لموقف قوم صالح: {قالُوا: اِطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ} [النمل 47/ 27].
ثم أيدهم الله بنصير:
{وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى، قالَ: يا قَوْمِ، اِتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي وجاء رجل من أبعد أطراف المدينة يسرع المشي لما سمع بخبر الرسل، وهو حبيب النجار، فقال ناصحا قومه:
يا قوم، اتبعوا رسل الله الذين أتوكم لإنقاذكم من الضلال، وهم مخلصون لكم في دعوتهم، فلا يطلبون أجرا ماليا على إبلاغ الرسالة، وهم على منهج الحق والهداية فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له.
وأبان أنه يحب لهم ما يحب لنفسه:
{وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؟ أي وما يمنعني من
إخلاص العبادة للذي خلقني، وإليه المرجع والمآل يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وفي هذا ترغيب بعبادة الله وترهيب من عقابه، ثم أكد سلامة منهجه وتقريعهم على عبادة الأصنام، فقال تعالى:
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً، وَلا يُنْقِذُونِ} ؟ هذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، يراد به: لن أتخذ من دون الله آلهة، فأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني وخلقني، فإنه إن أرادني الرحمن بسوء لم تنفعني شفاعة هذه الأصنام التي تعبدونها، ولا تخلصني من ورطة السوء، فإنها لا تملك من الأمر شيئا؛ إذ إنها لا تملك دفع الضرر ولا منعه، ولا جلب النفع، ولا تنقذ أحدا مما هو فيه.
{إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إن اتخذت هذه الأصنام آلهة من دون الله، فإني في الحقيقة والواقع في خطأ واضح، وجهل فاضح، وانحراف عن الحق.
وهذا تعريض بهم، ثم صرح بإيمانه تصريحا لا شك فيه مخاطبا الرسل:
{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي إني صدقت بربكم الذي أرسلكم، فاشهدوا لي بذلك عنده.
روي عن ابن عباس وكعب ووهب رضي الله عنهم: أنه لما قال ذلك، وثبوا عليه وثبة رجل واحد، فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه. وقال قتادة:
جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به حتى مات رحمه الله.
وكان من حبّه لهدايتهم:
{قِيلَ: اُدْخُلِ الْجَنَّةَ، قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي،