الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأننا لا نقدر عليهم، فأولئك جميعهم مجزيون بأعمالهم، تحضرهم الزبانية إلى عذاب جهنم، ولا يجدون عنها محيصا أو مهربا.
ثم أبان الله تعالى ما يريح الخلائق جميعا في مسألة الرزق، وأنه وحده هو المصدر، فقال:
{قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي قل أيها الرسول لهم: إن ربي وحده هو الذي يوسع الرزق على من يريد من عباده، وهو الذي يضيقه على من يشاء، بحسب ما له في ذلك من الحكمة التي لا يدركها غيره.
{وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} أي إن عطاء الله متجدد دائم، فكل ما تنفقونه في فعل الخيرات التي أمر الله بها في كتابه وبيّنها رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو يعوضه عليكم بالبدل في الدنيا أو بالجزاء والثواب في الآخرة، والله هو الرازق في الحقيقة، وما العباد إلا وسائط وأسباب. وفي هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الإنفاق في الخير.
جاء في الحديث القدسي عند مسلم: «يقول الله تعالى: أنفق أنفق عليك»
وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنفق بلالا، ولا تخش من ذي العرش إقلالا» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1 -
إن الاغترار بالأموال والأولاد ظاهرة عامة في البشر، وهي في الغالب سبب للإعراض عن دعوة الرسل، فلم يرسل الله نبيا ولا رسولا إلا قال مترفوها
أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل والأنبياء: نحن كافرون بما أرسلتم به.
وقالوا أيضا: لقد فضلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدّين والفضل لم يعطنا ذلك، ولسنا نحن بمعذبين في الآخرة إن وجدت كما تقولون؛ لأن من أحسن إليه فلا يعذبه.
2 -
رد الله عليهم قولهم بأن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانا لهم، فلا يدل شيء من ذلك على ما في العواقب، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة، فلا تظنوا أن أموالكم وأولادكم تغني عنكم غدا شيئا، والرزق في الدنيا لا تدل سعته وضيقه على حال المحق والمبطل، فكم من موسر شقي ومعسر تقي.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا؛ لأنهم لا يتأملون.
3 -
أكد الله تعالى جوابه بأن الأموال والأولاد لا تقرب شيئا إلى الله، أما الذي يقرب إليه فهو الإيمان والعمل الصالح، فمن آمن وعمل صالحا فلن يضره ماله وولده في الدنيا.
وأولئك المؤمنون الصالحون لهم الجزاء المضاعف للحسنات في الآخرة، كما قال سبحانه:{مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} [الأنعام 160/ 6] وهم الآمنون من كل مكروه في غرفات الجنة، آمنون من العذاب والموت والأسقام، وهذا إشارة إلى دوام النعيم وتأبيده، فإن من تنقطع عنه النعمة، لا يكون آمنا.
وقد استدل بعضهم بهذه الآية في تفضيل الغنى على الفقر، قال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنيا آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية.
4 -
أما الكافرون الصادون عن سبيل الله واتباع رسله، الساعون في إبطال
الأدلة والحجج المذكورة في القرآن، الذين يحسبون أنهم يفوتون الله بأنفسهم، فلا يقدر عليهم، فأولئك تحضرهم الزبانية في نار جهنم، وهذا إشارة أيضا إلى دوام العذاب، كما قال تعالى:{كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها} [السجدة 20/ 32] وكما قال تعالى: {وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ} [الانفطار 16/ 82].
5 -
كرر الله تعالى للتأكيد أنه هو وحده باسط الرزق ومضيقه لمن يشاء، على وفق ما يرى من الحكمة والمصلحة لعباده، فيا أيها المغترون بالأموال والأولاد: إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد، بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه عليكم، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى، وهو الرازق على الحقيقة، والناس مجرد وسطاء ورزقهم منقطع، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات 58/ 51].
6 -
ما دلت عليه الآية: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ}
والحديث المتقدم المتفق عليه عن أبي هريرة مرفوعا: «قال: قال الله عز وجل: «أنفق أنفق عليك» : فيه إشارة إلى أن الخلف في الدنيا عن النفقة إذا كانت النفقة في طاعة الله، وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء لتكفير الذنوب أو ادخار الثواب في الآخرة.
روى الدارقطني عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله، كتب له صدقة، وما وقى به الرجل عرضه
(1)
فهو صدقة، وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية».
أما ما أنفق الشخص في معصية فلا خوف أنه غير مثاب عليه، ولا مخلوف له. وأما البنيان فما يكون منه ضروريا يكنّ الإنسان ويحفظه فذلك مخلوف
(1)
مثل إعطاء الشاعر وذي اللسان لتوقي الذم والقدح والهجاء.