الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يصعب عليه أمر، فهو يعلم المستحق للعقوبة، قادر على الانتقام منه في أي وقت أو مكان شاء.
ثم أبان الله تعالى سياسته العقابية، وأخبر عن سابغ وواسع رحمته بالناس، فقال:
{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} أي لو عجل تعالى العقاب وآخذ الناس بجميع ذنوبهم، لأهلك جميع أهل السموات والأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق، لشؤم معاصيهم. والمراد بالدابة كما قال ابن مسعود: جميع الحيوان مما دبّ ودرج.
{وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ، فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً} أي ولكن يؤجل عقابهم ومؤاخذتهم بذنوبهم إلى وقت محدد وهو يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية، والله بصير بمن يستحق منهم الثواب، ومن يستحق منهم العقاب، لا يخفى عليه شيء من أمرهم.
ونظير الآية: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} [الكهف 58/ 18].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1 -
أقسمت قريش قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم أنه إن جاءهم نبي ليكونن أهدى ممن كذب الرسل من أهل الكتاب.
وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل.
فلما جاءهم ما تمنّوه وهو الرسول النذير، من أنفسهم، نفروا عنه، ولم يؤمنوا
به، تكبرا وعتوا عن الإيمان، ومكرا منهم بصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم.
2 -
لكن تنكر المشركين للعهد بالله، وإخلالهم بالوفاء باليمين، وعاقبة شركهم: لا ترتد آثاره إلا عليهم أنفسهم. وهذا ما دل عليه قوله تعالى:
{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} . وفي أمثال العرب: «من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبّا»
وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا، فإن الله تعالى يقول:{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} ولا تبغ ولا تعن باغيا، فإن الله تعالى يقول:{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} وقال تعالى: {إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} .
وفي الحديث الذي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن قيس بن سعد: «المكر والخديعة في النار» أي تدخل أصحابها في النار؛ لأنها من أخلاق الكفار، لا من أخلاق المؤمنين الأخيار،
قال صلى الله عليه وسلم:
«وليس من أخلاق المؤمن: المكر والخديعة والخيانة» .
3 -
ما موقف المشركين المعاند من نبي الله إلا كموقف من ينتظر العذاب الذي نزل بالكفار الأولين، وقد أجرى الله العذاب على الكفار، وجعل ذلك سنة أي طريقة فيهم، فهو يعذب المستحق، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره. والإهلاك ليس سنة الأولين وإنما هو سنة الله بالأولين.
4 -
تأكيدا لهذا الموقف نبّههم الله تعالى إلى الأمثلة الواقعية من تاريخ الأمم الغابرة، وهم الذين يشاهدون آثار تدمير مساكنهم ودورهم أثناء تجاراتهم ورحلاتهم إلى بلاد اليمن والشام والعراق، مثل إهلاك قوم عاد وثمود ومدين وغيرهم، لما كذبوا رسل الله، وكانوا أشد من أهل مكة قوة، وأكثر أموالا وأولادا، وإذا أراد الله إنزال عذاب بقوم لم يعجزه ذلك.
5 -
اقتضت رحمة الله تبارك وتعالى ألا يعجل العذاب للعصاة والكفار على
ذنوبهم، وإنما يؤخرهم ويمهلهم إلى يوم معين كي تكون لديهم فرصة، فيتداركوا تقصيرهم، ويعدلوا عن ظلمهم، وكان مقتضى العدل تعجيل العقوبة، وإذا فعل الله ذلك، أهلك جميع المخلوقات إلا من يشاء، والله سبحانه عليم بمن يستحق العقاب منهم.
وهذا رد بليغ على المشركين الذين كانوا من شدة عنادهم وفساد اعتقادهم وعتوهم يستعجلون بالعذاب، ويقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عجل لنا عذابنا، فقال الله: للعذاب أجل.
وقد حكى القرآن الكريم استعجال المشركين بالعقاب استهزاء، حيث قالوا:
{اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال 32/ 8].