الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: {هَلْ مِنْ خالِقٍ}
…
{يَرْزُقُكُمْ..} . للتقرير، أي لا خالق رازق غيره {فَأَنّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن توحيد الخالق، مع إقراركم بأنه الخالق الرازق.
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} يا محمد في دعوتك إلى التوحيد والبعث والحساب والعقاب {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} في ذلك، فاصبر كما صبروا. وفي هذا دعوة له للتأسي بمن قبله من الأنبياء، وتسلية عن تكذيب كفار العرب له {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي المصير النهائي المحتوم إلى الله، فيجازي كلا بما يستحقه، يجازي المكذبين، وينصر المرسلين.
التفسير والبيان:
{الْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي لله الشكر الخالص على نعمه وقدرته، فإنه خلق السموات والأرض وأبدعهما، لا على مثال سابق، وأحكم نظامهما. فموضوع الآية: أن الله تعالى يحمد نفسه على عظيم قدرته وعلمه وحكمته التي يشهد عليها ابتداء خلق السموات والأرض من العدم، واختراعهما على غير مثال، قال سفيان الثوري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: هذه بئري وأنا فطرتها» أي بدأتها.
والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم، فهو قادر على الإعادة.
{جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} أي إنه تعالى جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه لتبليغ رسالاته وغير ذلك، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وهم ذوو أجنحة متعددة، بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، وبعضهم له أكثر من ذلك، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء.
جاء في الحديث الصحيح عن مسلم عن ابن مسعود «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام، وله ستّ مائة جناح، بين كل جناحين، كما بين المشرق والمغرب» . ولهذا قال جلّ وعلا:
{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي يزيد في خلق الملائكة أجنحة أخرى ما يشاء، ويزيد في خلق غيرهم ما يشاء، من ملاحة العين، وحسن الأنف، وحلاوة الفم، وجمال الصوت، إن الله كامل القدرة في خلق الزيادة المادية الحسية والمعنوية، فلا يعجز عن شيء، وبقدرته يزيد مما يشاء.
قال الزهري وابن جريح في قوله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ} :
يعني حسن الصوت
(1)
.
وبعد بيان كمال القدرة بيّن الله تعالى أنه نافذ الإرادة والمشيئة والأمر، فقال:
{ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي ما يعطي الله تعالى من نعمة حسيّة أو معنوية من رزق ومطر، أو صحة وأمن، أو علم ونبوة وحكمة، فلا مانع له، وما يمنع من ذلك فلا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه، بيده الخير كله، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع،
روى الإمام أحمد والشيخان عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من الصلاة، قال:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: «سمع الله لمن حمده، اللهم ربّنا لك الحمد ملء السّماء والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد، أحق
(1)
رواه عن الزّهري البخاري في الأدب وابن أبي حاتم في تفسيره.
ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ».
ونظير الآية قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ، فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [الأنعام 17/ 6].
وفي موطأ مالك: بلغه أن أبا هريرة كان يقول إذا أصبح، وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه الآية:{ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلا مُمْسِكَ لَها} .
وبعد بيان كونه تعالى مصدر الخلق والرزق والنعم، أمر بتذكر نعمه والإقرار بالتوحيد فقال:
{يا أَيُّهَا النّاسُ، اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلاّ هُوَ، فَأَنّى تُؤْفَكُونَ} أي يا أيها الناس قاطبة، تذكروا نعم الله عليكم، وارعوها، واحفظوها بمعرفة حقوقها والاعتراف بها، وأفردوا موجدها بالعبادة والطاعة، فهو وحده رازقكم من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك، وأعلنوا توحيد الله وأنه لا إله إلا هو، وإذا أقررتم بذلك، فكيف بعد هذا البيان ووضوح البرهان تصرفون عن الحق: وهو توحيد الله وشكره، وتعبدون بعد هذا الأنداد والأوثان؟! وبعد تقرير الأصل الأول وهو التوحيد، قرر الله تعالى الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال مسلّيا رسوله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه:
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي وإن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون، ويعارضونك فيما جئت به من التوحيد، بعد إثباته بالأدلة والبراهين، فتأسّ بمن سلف قبلك من الرّسل، فإنهم أيضا جاؤوا قومهم بالبيّنات وأمروهم بالتوحيد، فكذبوهم وخالفوهم، ومصير