الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأجدر، كما قال تعالى:{اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} [الأنعام 124/ 6].
فليس بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أحد من الناس أبوة شرعية يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها، وإنما هو أب روحي لجميع المؤمنين، شديد الإشفاق عليهم، يستوجب التوقير والاحترام، كما قال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب 6/ 33] وهذا أمر أجمع وأعم، وأما قوله تعالى:{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ.} . فهو خاص.
وأما أبوته صلى الله عليه وسلم الخاصة فهو أب لأربعة ذكور، وأربع بنات، فقد ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها، ثم ماتوا صغارا، وولد له إبراهيم من مارية القبطية ثم مات رضيعا، وكان له أربع بنات من خديجة:
زينب ورقيّة وأم كلثوم وفاطمة، وقد ماتت الثلاث الأول في حياته صلى الله عليه وسلم، ثم ماتت فاطمة بعده لستة أشهر.
وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعد نبي الله محمد، ولا رسول بعده بالطريق الأولى؛ لأن النبوة أعم من الرسالة، والرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا عكس، وإذا انتفى وجود النبي بصريح الآية، انتفى وجود الرسول أيضا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
1 -
يحظر ويمنع على أي مؤمن أو مؤمنة إذا قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر أن يختار غيره؛ لأن لفظة ما كان، وما ينبغي معناها هنا الحظر والمنع، فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون، كما في هذه الآية. وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا، كقوله تعالى:{ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها}
[النمل 60/ 27]. وربما كان العلم بامتناعه شرعا كقوله تعالى: {ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [آل عمران 79/ 3] وقوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} [الشورى 51/ 42]. وربما كان في المندوبات؛ كما تقول: «ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل» ونحو هذا.
2 -
في هذه الآية دليل للمالكية على أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان، خلافا للجمهور؛ لأن الموالي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير، وزوّج أبو حذيفة سالما من فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف. وقد أراد الله امتحان زينب بزواج زيد لهدم مبدأ العصبية الجاهلية والامتياز الطبقي أو العنصري، وجعل أساس التمايز هو الإسلام والتقوى.
3 -
يجب اتباع أمر الله ورسوله؛ لأن الله أخبر أن من يعصي الله ورسوله فقد ضل طريق الهدى. قال القرطبي: وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين، من أن صيغة «افعل» للوجوب في أصل وضعها؛ لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلّف عند سماع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علّق على المعصية بذلك الضلال، فلزم حمل الأمر على الوجوب
(1)
.
4 -
أراد الله تعالى من عتاب نبيه بآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ.} . إظهار صلابة الأنبياء في بيان الأحكام الإلهية، وأن يكون ظاهرهم
(1)
تفسير القرطبي: 188/ 14
وباطنهم سواء؛ لأن الله تعالى أعلم نبيه بأن زيدا سيطلّق زينب وينكحها هو، فما الداعي لوعظه وقوله له:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ} ؟.
وقد أخفى النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبره الله به من طلاق زينب وزواجه، لا أنه أخفى استحسانها وحبّه لها والحرص على طلاق زيد إياها، كما يقول قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره، فهذا لا يليق بمنصب النبوة، ولا يتفق مع الواقع، فإنه كان بإمكانه أن يتزوجها وهي بكر، وهو يعرفها؛ لأنها ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت هي ترغب بذلك، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما خطبها لزيد، ظنت أنه خطبها لنفسه، والخلاصة: أن قائل ذلك-إن تعمد-جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته.
وأشد قبحا ما قال مقاتل: زوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد، فمكثت عنده حينا، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى زيدا يوما يطلبه، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها وقال:«سبحان مقلّب القلوب» فسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد، ففطن زيد، فقال:
يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرا، تعظم علي وتؤذيني بلسانها،
فقال صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ} .
وأحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري الفقيه المالكي الذي ولي قضاء العراق، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم: هو ما
روي عن علي بن الحسين:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدا يطلّق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما تشكّى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب
والوصية: «اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك» وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها؛ وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من خشيته الناس في شيء قد أباحه الله له، بأن قال:«أمسك» مع علمه بأنه يطلّق، وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال.
ويدل تحرج النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الزواج على أن للأعراف والعادات تأثيرا كبيرا في المجتمعات والسلوك.
5 -
اقترنت واقعة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب في السيرة بأحكام شرعية، منها: استخارة الله في الأمور، فعند ما جاء زيد يخطبها للنبي صلى الله عليه وسلم فرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن.
ومنها: ندب وليمة الزواج، قال أنس بن مالك فيما يرويه مسلم:
«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة.
ومنها: أن يقول الإنسان لصاحبه: اخطب علي فلانة، وهو زوجها المطلقة منه، ولا حرج في ذلك، كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد في رواية: «اذكرها علي» أي اخطبها.
6 -
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بتزويج الله تعالى له، فلما وكّلت زينب أمرها إلى الله، وصح تفويضها إليه، تولى الله إنكاحها، ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في عقود زواجنا، ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول:«زوجكن آباؤكن، وزوّجني الله تعالى» . أخرج النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت
زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول: إن الله عز وجل أنكحني من السماء، وفيها نزلت آية الحجاب.
7 -
المنعم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة؛ إذ أعتقه النبي صلى الله عليه وسلم عند ما اختار البقاء عنده، مفضلا إياه على أبيه وعمه،
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
«اشهدوا أني وارث وموروث» فلم يزل يقال: زيد بن محمد، إلى أن نزل قوله تعالى:{اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ} ونزل: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ} .
8 -
قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السّهيلي رحمه الله تعالى: كان يقال:
زيد بن محمد، حتى نزل:{اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ} فقال: أنا زيد بن حارثة، وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد. فلما نزع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخصّ بها أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنه سماه في القرآن؛ فقال تعالى:{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً} يعني من زينب. ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب، نوّه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوّة محمد صلى الله عليه وسلم له.
فهو لا يزال مترددا على ألسنة المؤمنين، ومذكورا على الخصوص عند رب العالمين؛ إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد؛ فاسم زيد هذا في الصحف المكرّمة المرفوعة المطهرة، تذكره في التلاوة السّفرة الكرام البررة.
وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضا من الله تعالى له مما نزع عنه.
وزاد في الآية أن قال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ} أي بالإيمان؛ فدل على أنه من أهل الجنة، علم ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى.
9 -
قوله تعالى: {زَوَّجْناكَها} دليل على ثبوت الولي في النكاح.
10 -
أعلم الله جميع الأمة أنه سنّ لمحمد صلى الله عليه وسلم التوسعة عليه في النكاح سنّة الأنبياء الماضية، كداود وسليمان، فكان لداود مائة امرأة، وثلاث مائة سرّية، ولسليمان ثلاث مائة امرأة وسبع مائة سرّية.
11 -
دلت آية {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ} على أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بأب شرعي لزيد، وليس زيد ابنا له، حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمّته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءه عليهم حرام. فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم، واعتراضهم بقولهم: تزوج النبي امرأة ابنه؛ وأعلم أن محمدا لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة.
ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، فقد ولد له ذكور كما تقدم: إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهّر، ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلا. وأما الحسن والحسين فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له.
12 -
الحقيقة أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان رسول الله، وخاتم النبيين، وقوله {خاتَمَ} بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا، فهو كالخاتم والطابع لهم، وبكسر التاء: بمعنى أنه ختمهم، أي جاء آخرهم.
وهذا دليل قاطع على أنه لا نبي ولا رسول بعده صلى الله عليه وسلم، وفيه وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منها
ما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها، ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللّبنة، فأنا موضع اللّبنة حيث جئت، فختمت الأنبياء» ونحوه عن أبي هريرة، غير أنه قال:«فأنا اللّبنة وأنا خاتم النبيين» .
ومنها ما أخرجه الصحيحان عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لي