الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد بيان عقاب المشركين في نار جهنم يوم القيامة وأنه يقال لهم: {ذُوقُوا عَذابَ النّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ} ذكر الله تعالى الأسباب الموجبة للعذاب من فساد الاعتقاد، واشتداد العناد، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام كله، ثم أنذرهم سوء العاقبة كالذين من قبلهم من الأمم القوية، ودعاهم إلى التأمل والتفكر الهادئ العميق في شأن النبي صلى الله عليه وسلم المنذر من عذاب يوم القيامة، وأخبرهم بأن الله أرسل إليهم الحق الدامغ الساطع وهو القرآن والوحي، وما عداه هو الباطل الذي لا حقيقة ولا بقاء لأثره.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أسباب استحقاق الكفار العقوبة وأليم العذاب، ويذكر هنا أهمها وهي ثلاث: الطعن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن الكريم، وبالدين والإسلام كله، فيقول:
1 -
{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا: ما هذا إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ} أي وإذا تليت آيات القرآن الواضحات الدلالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك، الظاهرات المعاني، قالوا: ما هذا أي النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلا رجل يريد صرفكم عن دين الآباء والأجداد من عبادة الأصنام، دون حجة ولا برهان، وما جاء به باطل.
2 -
{وَقالُوا: ما هذا إِلاّ إِفْكٌ مُفْتَرىً} أي وقال الكفار ثانيا: ما هذا أي القرآن إلا كذب على الله، مختلق من عنده، بقصد تضليل الأتباع.
3 -
{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ: إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} أي وقال الكافرون ثالثا: ما هذا الدين والإسلام المشتمل على المعجزات والشرائع والأحكام لتنظيم الحياة الاجتماعية إلا سحر ظاهر.
فرد الله عليهم مبطلا كون دينهم حقا، ومظهرا انعدام حجتهم في اتباعه، فقال:
{وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها، وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن يقرر لهم دينا، وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الحق، وينذرهم بالعذاب مع أنهم كانوا يقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا، فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه.
وإذا كان الدين الصحيح لا يعرف إلا بوحي من عند الله، وبكتاب ينزل على رسول، فإن ادعاء المشركين أن الشرك بالله وتقليد الأسلاف هو الدين الحق ادعاء باطل لا يعتمد على أساس ولا حجة.
ونظير الآية كثير منها: {أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم 35/ 30]{أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف 21/ 43]{أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ} [القلم 37/ 68 - 38].
ثم هددهم بعذاب مشابه لعذاب الأمم الظالمة من قبلهم، فقال:
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ، فَكَذَّبُوا رُسُلِي، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} أي ولقد كذبت الرسل والوحي أمم سابقة من القرون الخالية كقوم نوح وعاد وثمود، وكانوا في الدنيا أشد قوة وبأسا من العرب، بل إن أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب لم يبلغوا بقوتهم وكثرة ما لهم عشر ما آتينا من قبلهم من القوة وكثرة المال، فلم يدفع عنهم عذاب الله ولا رده، وإنما أهلكهم الله ودمرهم تدميرا، كما قال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً} [غافر 82/ 40].
وما جرى على المثيل يجري على مثيله، لتساويهما في سبب العقاب، فيتساويان في الحكم.
ثم نصحهم القرآن بالتأمل والتريث في الحكم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:
{قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ: أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا:}
{ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وآمركم وأنصحكم بخصلة واحدة: هي قيامكم في طلب الحق بالفكرة الصادقة، والتأمل الذاتي المجرد المخلص، دون تأثر بهوى أو عصبية، متفرقين اثنين اثنين، أو واحدا واحدا؛ لأن الاجتماع والتجمهر يشوّش الفكر، وينشر الغوغائية والفوضى، ويثني الفكر عن الصواب، ثم ينصح بعضكم بعضا بإخلاص أن ينظر ويتفكر في حقيقة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الكتاب، فإنكم حينئذ تعلمون أن صاحبكم ليس بساحر ولا مجنون؛ ليس في أحواله ولا تصرفاته ما يدل على ذلك، وإنما هو نبي مؤيد من عند الله بالمعجزات الدالة على صدقه.
{إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ} أي وما هذا الرسول إلا منذركم ومخوفكم ما تستقبلونه من عذاب شديد على النفوس يوم القيامة. وجعل إنذاره بين يدي العذاب إشارة إلى قرب العذاب؛ لأنه بعث قرب الساعة،
روى الإمام أحمد حديثا هو: «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني» .
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصّفا ذات يوم، فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبّحكم أو يمسّيكم، أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وسلم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب:
تبّا لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل:{تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَتَبَّ} [المسد 1/ 111].
قال الرازي: ذكر الأصول الثلاثة في هذه الآية بعد ما سبق منه تقريرها بالدلائل، فقوله:{أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ} إشارة إلى التوحيد، وقوله:
{ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ} إشارة إلى الرسالة، وقوله:
{بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ} إشارة إلى اليوم الآخر.
ولما نفى تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم الجنون المستلزم كونه نبيا، ذكر سببا آخر يلزم منه أنه نبي: وهو عناؤه الشديد في دعوته لا لغرض دنيوي عاجل، وإنما بقصد الثواب الأخروي، فقال:
{قُلْ: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي قل أيها الرسول للمشركين: لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة الله عز وجل إليكم، ونصحي لكم، وأمري بعبادته تعالى، إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله تعالى، والله عالم بجميع الأمور، من صدقي في تبليغ الرسالة، وما أنتم عليه.
ثم صرح تعالى بأن ما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو وحي من عند الله، فقال:{قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ، عَلاّمُ الْغُيُوبِ} أي قل للمشركين: إن الله يرسل الملك بالوحي إلى من يشاء من عباده، فمن يصطفيهم لرسالته، وهو علام الغيوب، فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض.
وهذا كما قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} [غافر 15/ 40] وقال سبحانه: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} [الأنعام 124/ 6].
وبعد أن ذكر الله تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة الاستقبال، أخبر أن ذلك الحق قد جاء فقال: