الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهو الحق، ومن خالفهما فقد ضل ضلالا مبينا؛ لأن الله هو المقصد، والنبي هو الهادي الموصل.
ثم ذكر الله تعالى قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب، تنفيذا لأمر الله، وتقريرا لشرع محكم دائم مشتمل على فائدة، خال من المفاسد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بدعا بين الرسل فيما أباح الله له من الزوجات، وأنه من أولئك الرسل الكرام الذين يبلّغون رسالات ربهم، ولا يخشون أحدا غير الله، وهو بهذا الزواج من زينب قد أبطل بالفعل بعد القول ما كان مقررا في الجاهلية من حرمة الزواج بحليلة الابن بالتبني، كما قال تعالى في هذه الآيات:{لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً} ثم أكد ذلك بقوله: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ.} . الآية.
التفسير والبيان:
{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي ليس لأي مؤمن أو مؤمنة إذا حكم الله ورسوله بأمر أن يختاروا أمرا آخر، وإنما عليهم الامتثال لأمر الله ورسوله، وتجنب معصيته. ومبلّغ الأمر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله لتعظيم أمر رسوله، فصار حكم الله ورسوله واحدا، وقضاؤهما واحدا، فإذا قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر لم يكن لبشر اختيار غيره. وهذه الآية داخلة في ضمن قوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب 6/ 33].
ثم حذر الله تعالى من عصيان الأمر فقال:
{وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} أي ومن يخالف أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أو يعصي ما نهيا عنه، فقد انحرف عن طريق الهدى والرشاد، ووقع في متاهات الضلال المبين البعيد عن منهج الحق والخير، المؤدي إلى ضياع
المصالح والانغماس في المفاسد، كما قال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [النور 63/ 24].
وإزاء هذا الحكم الإلهي القاطع والتحذير من العصيان، فإن زينب بنت جحش التي نزلت الآية بسببها، امتثلت أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقبول زواجها من زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وعبده المعتق، وهي من علية قريش وذؤابة القوم، وبنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت:«إذن لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أنكحته نفسي» بعد أن استنكفت من زيد، وقالت: أنا خير منه حسبا» لأنها كانت امرأة فيها حدّة.
وكان في زواجها بزيد حكمة بالغة هي إعلان المساواة بين الناس، والقضاء على فوارق النسب والحسب، ما دامت مظلة الإسلام واحدة يتساوى فيها الجميع، وأن التفاضل فيه إنما هو بالتقوى والعمل الصالح.
ولكن بالرغم من الموافقة الظاهرية على هذا الزواج، ظلت الكوامن النفسية والآلام قائمة، وبقيت زينب كارهة لزيد، متعالية عليه، فاشتكى منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا،
فكان صلى الله عليه وسلم ينصحه قائلا: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ} إلى أن نفذ حكم الله، وحدث الطلاق، وهو ما قررته الآيات التالية:
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللهَ} أي واذكر يا محمد حين كنت تقول لزيد الذي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالإعتاق والحرية والتربية والتقريب منك: أبق على زواجك بزينب، واصبر على طبعها وخلقها، واتق الله في شأنها وفي طلاقها، فلا تطلقها لتعاليها وشعورها بالرفعة والشرف، فإن الطلاق مضرة. وهذا نهي تنزيه وتعليم وتربية، لا نهي تحريم وحظر؛ لأن الأولى على كل حال ألا يطلقها، لأن الطلاق شائن لها.
{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} أي وتخفي أيها الرسول في نفسك ما الله مظهره من الحكم، وهو علمك بأن زيدا سيطلقها وستنكحها؛ لأن الله قد أعلمه بذلك، وتخاف من تعيير الناس ونقدهم واعتراضهم النابع من منطق الجاهلية، والله بعد أن أنزل عليك وحيه وشرعه المصحح لأعراف الجاهلية وتقاليدها أو المبطل لها، أجدر وحده أن تخاف منه، وتلزم أمره، وتمضي حكمه دون مبالاة بشرائع غيره. فقوله:{وَاتَّقِ اللهَ} أي في طلاقها، فلا تطلّقها، وأراد بذلك نهي تنزيه، لا نهي تحريم؛ لأن الأولى ألا يطلق.
عن عائشة رضي الله عنها: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه، لكتم هذه الآية.
والمراد من هذا التوجيه للنبي صلى الله عليه وسلم: أن يصمت حين قال له زيد: أريد مفارقتها، أو يقول له: أنت أعلم بشأنك، حتى لا يتناقض سرّه مع علانيته، وليتساوى ظاهر الأنبياء وباطنهم، ولتبدو ظاهرة التصلب في الأمور الجادة التي نزل فيها وحي إلهي.
ثم أعلن الله تعالى حكم زواج زينب المطلقة بعد انتهاء عدتها من نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال:
{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً، زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً} أي لما طلقها زيد، وانتهت حاجته منها، وملّها، وانقضت عدتها، جعلناها لك زوجة، ليرتفع الحرج والضيق من بين المؤمنين إذا أرادوا الزواج بمطلّقات أدعيائهم وهم الذين تبنوهم في الجاهلية، ثم أبطل الإسلام حكم التبني وألغى جميع آثاره، وصفّى كل نتائجه، وكان قضاء الله وقدره نافذا وكائنا لا محالة، وحكمه سائدا وشرعه دائما في كل زمان، ومن أحكام الله في سابق علمه أن زينب ستصير زوجة
للنبي صلى الله عليه وسلم. والوطر: كل حاجة للمرء له فيها همّة، والجمع: الأوطار، قال ابن عباس: أي بلغ ما أراد من حاجته، يعني الجماع. وفي التعبير إضمار؛ أي لما قضى وطره منها، وطلّقها زوجناكها، وقراءة أهل البيت: زوجتكها.
وفي هذا إشارة إلى أن التزويج لزينب من النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لقضاء شهوة، بل لبيان الشريعة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الفعل أوكد، والشرع يستفاد على نحو أقطع من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أريد من هذا الزواج نفي الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انتهاء رابطة الزوجية بينهم وبينهن.
روى البخاري والترمذي رحمهما الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
وقال محمد بن عبد الله بن جحش: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما فقالت زينب رضي الله عنها: أنا التي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا التي نزل عذري من السماء، فاعترفت لها زينب رضي الله عنها.
وذكر ابن جرير عن الشعبي رضي الله عنها عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأدلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدلّ بهن: إن جدّي وجدّك واحد، وإن الله عز وجل أنكحك إياي من السماء، وإن السفير في ذلك جبريل عليه السلام».
ثم أخبر الله تعالى عن سنته وحكمه في الرسل والأنبياء، فقال:
{ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ، سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً} أي لم يكن على النبي حرج أو عيب فيما أحل
له وأمره من زواج زينب مطلّقة دعيه ومتبناة سابقا زيد بن حارثة رضي الله عنه. وهذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء، وعليهم في ذلك حرج وضيق، وكان أمر الله الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وهذا رد على المنافقين الذين عابوا رسول الله في تزوجه امرأة زيد مولاه ودعيّه الذي كان قد تبناه، ورد أيضا على اليهود الذين عابوه من كثرة الزوجات، فقد كان لداود وسليمان عليهما السلام عدد كثير من النساء.
ثم مدح الله رسله الكرام، فقال:
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ، وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً} أي إن أولئك الرسل الذين رفع الله الحرج عنهم فيما أحل لهم، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم مهمتهم تبليغ رسالات الله وشرائعه إلى الناس وأداؤها بأمانة، وهم يخافون الله وحده في ترك تبليغ شيء من الوحي، ولا يخافون أحدا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد أو انتقاده عن إبلاغ رسالات الله تعالى، وكفى بالله ناصرا ومعينا، وحافظا لأعمال عباده ومحاسبهم عليها.
ثم رد الله تعالى على نقد من قالوا: إن محمدا تزوج حليلة ابنه، فقال:
{ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي إن التزوج بزوجة الابن النسبي بالفعل هو غير جائز، أما التزوج بزوجة المتبنى بالتبني المصطنع فهو جائز، خلافا لشرعة الجاهلية، وإن زيدا لم يكن ابنا لمحمد صلى الله عليه وسلم حقيقة وإن كان قد تبناه، وليس هو أبا على الحقيقة لأحد من الرجال، وإنما هو رسول الله لتبليغ رسالته وشرعه إلى الناس، وهو الذي ختم به أنبياء الله ورسله، وكان الله وما يزال عليما مطلعا على كل شيء، يعلم من بدئت به النبوة ومن ختمت به، ولا يفعل إلا ما هو الأصلح، ولا يختار إلا من هو