الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كُنّا}: إن مخففة من الثقيلة عند البصريين واسمها محذوف، وتقديره: وإنا كنا، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وذهب الكوفيون إلى أنها بمعنى «ما» واللام بمعنى: إلا، وتقديره: وما كنا عن دراستهم إلا غافلين.
البلاغة:
{يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا} وضع الظاهر موضع الضمير: عنها لتبيان قباحة طغيانهم.
المفردات اللغوية:
{ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} التوراة، و {ثُمَّ} لترتيب الأخبار. {تَماماً} للنعمة.
{عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} بالقيام به. {وَتَفْصِيلاً} بيانا. {لِكُلِّ شَيْءٍ} يحتاج إليه في الدين.
{لَعَلَّهُمْ} أي بني إسرائيل. {بِلِقاءِ رَبِّهِمْ} بالبعث. {وَهذا} القرآن. {فَاتَّبِعُوهُ} يا أهل مكة بالعمل بما فيه. {وَاتَّقُوا} الكفر. {أَنْ تَقُولُوا} لئلا تقولوا. {طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا} هم اليهود والنصارى. {وَإِنْ كُنّا} إن: مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي إنا كنا، والأصل: وإنه كنا عن دراستهم غافلين، على أن الهاء ضمير الشأن. {عَنْ دِراسَتِهِمْ} قراءتهم وعلمهم أي لم نعرف مثل دراستهم. {لَغافِلِينَ} لعدم معرفتنا لها؛ إذ ليست بلغتنا.
{لَكُنّا أَهْدى مِنْهُمْ} لحدة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، وغزارة حفظنا لأيام العرب، ووقائعها. وخطبها، وأشعارها، وأسجاعها، على أنا أميون. {بَيِّنَةٌ} البيان والبيّنة: ما به يظهر الحق. {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} لمن اتبعه. {فَمَنْ} أي لا أحد. {وَصَدَفَ عَنْها} أعرض ومنع الناس عنها. {سُوءَ الْعَذابِ} أي أشده.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله الوصايا العشر، أخبر عن الغاية من إنزال التوراة على موسى عليه السلام؛ لاشتهارها عند مشركي العرب وسماعهم أخبارها، ثم ذكر مكانة القرآن وكونه كتاب هداية، وأعمل بوجوب اتباعه، ورد على عذر المشركين بعدم الانقياد له، مما لا يصلح عذرا بعد جعل القرآن مباركا كثير الخير والفضل.
التفسير والبيان:
في الكلام شيء محذوف تقديره: لفظ «قل» أي قل يا محمد الرسول لهؤلاء
الناس: إنا آتينا موسى الكتاب، وهو معطوف على بداية الكلام عن الوصايا العشر، بكلمة {ثُمَّ} أي ثم قل: إن آتينا موسى الكتاب، ويصبح مجموع الكلام المقول للمشركين: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا، ثم قل لهم وأعلمهم: أننا آتينا موسى الكتاب.. إلخ أي أخبرهم بما أوحي إليك، وبما آتينا موسى.
وقد تكرر ذكر التوراة في القرآن؛ لأنها أشبه بالقرآن من الإنجيل والزبور، لاشتمالها على جميع الأحكام التشريعية، فكل منهما شريعة كاملة، بعكس الإنجيل والزبور، فإن الإنجيل كتاب عظات وأمثال وتاريخ، والزبور كتاب ثناء ومناجاة وتراتيل. وكان كثير من عقلاء العرب يتمنى أن يكون لهم كتاب كالتوراة، وأنه لو جاءهم لكانوا أهدى من اليهود وأعظم انتفاعا به، لامتيازهم بحدة الذكاء وحصافة العقل والفهم.
ولما أخبر الله عن القرآن بقوله: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} عطف عليه الكلام بمدح التوراة ورسولها، فقال:{ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} .
وكثيرا ما يقرن سبحانه بين ذكر التوراة والقرآن كما بينت، كقوله تعالى:
{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا} [الأحقاف 12/ 46] وقوله أول هذه السورة: {قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} .
والوصايا العشر التي ذكرت في الآيات الثلاث، والتي لها نظير في سورة الإسراء، كانت أول ما نزل بمكة قبل تشريع أحكام العبادات والمعاملات، وكانت أول ما نزل على موسى من أصول دينه، وهي أيضا أصول الأديان على ألسنة الرسل؛ لقوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}
[الشورى 13/ 42] والقدر المشترك من الدين الذي أوصى به جميع الرسل: هو التوحيد، ومكارم الأخلاق، والبعد عن الفواحش والمنكرات.
{تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي آتينا موسى الكتاب تماما للكرامة والنعمة على الذي أحسن في اتباعه والاهتداء به، كما قال تعالى:{وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا} [الأنبياء 73/ 21].
ويجوز أن يكون المعنى: وآتينا موسى الكتاب تماما أي تاما كاملا جامعا لكل ما يحتاجه الناس من التشريع، وعلى أحسن ما تكون عليه الكتب، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن. لكن يضعف هذا المعنى ما يأتى بعده وهو:
{وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} أي وآتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه في شريعته، كقوله تعالى عن موسى:{وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف 145/ 7].
{وَهُدىً وَرَحْمَةً} أي وهو كتاب هداية إلى الحق، وسبب رحمة لمن اهتدى به واتبعه، وقال الرازي: معنى {رَحْمَةً} : أنه نعمة في الدين.
{لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي آتيناه الكتاب بمشتملاته المذكورة، لكي يؤمن قومه بلقاء ربهم، أي لقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب، وإذا آمنوا بذلك آمنوا بالله وحده لا شريك له.
ثم انتقل إلى وصف القرآن الكريم فقال: {وَهذا كِتابٌ..} . أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن، كثير الخير والنفع في الدين والدنيا، ثابت لا ينسخ، جامع لأسباب الهداية الدائمة والنجاة والفلاح، فاتبعوا ما هداكم إليه، واتقوا النار والكفر بما نهاكم عنه ومنعكموه، لتظفروا برحمة الله الواسعة في الدنيا والآخرة.
وفي هذا دعوة صريحة إلى اتباع القرآن، من طريق التدبر بآياته. والعمل
هذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا وهو خطاب لأهل مكة: إنما اقتصر إنزال الكتاب على من قبلنا من اليهود والنصارى، أي لينقطع عذركم، ولئلا تقولوا:
إنا كنا عن معرفة الكتب السابقة غافلين، لا ندري ما هي؛ لأنها ليست بلغتنا، ولأننا قوم أميون لا نعرف ما يعرفه ويدرسه غيرنا.
ولئلا تقولوا أيضا لو أنزل علينا ما أنزل عليهم، لكنا أهدى منهم فيما أوتوه؛ لأننا أكثر ذكاء وفهما، وأعمق بصيرة، وأمضى عزيمة، كقوله تعالى:
{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ، لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} [فاطر 42/ 35] أي أهدى من إحدى الأمم المجاورة من أهل الكتاب.
فرد الله عليهم بما يقطع كل تعلل واعتذار بقوله: {فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ.} .
أي فقد جاءكم على لسان رسولنا النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم قرآن عظيم، فيه بيان للحلال والحرام، وهدى لما في القلوب، ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه، ويقتفون ما فيه، وهو يشتمل على الحق المؤيد بالحجج والبراهين في العقيدة والآداب والأحكام.
ثم أبان الله سوء عاقبة من كذب بالقرآن، فقال:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ.} . أي لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله، بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك، وأعرض عنها، ومنع الناس عن التفكير فيها، كما كان يفعل زعماء مكة، كقوله تعالى:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} [الأنعام 26/ 6].
ثم أتبع الله ذلك بالتهديد والوعيد والعقاب لكل معرض عن القرآن، كما هو الشأن الغالب بعد بيان أسباب الهداية، فقال:{سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ.} .
أي سنجازي المعرضين عن آياتنا أشد العذاب بسبب حجب عقولهم ونفوسهم وغيرهم عن هداية الله، والإعراض عنها؛ لأنهم يتحملون وزرهم ووزر من