الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن الرّحمة والرّحم واحد، وهي بمعنى العفو والمغفرة، وقيل: أراد بالرحمة الإحسان، وقيل:
مالا يكون تأنيثه حقيقيا جاز تذكيره، وقيل: أراد بالرحمة هنا المطر، وقيل: على تذكير المكان أي مكانا قريبا، وقيل: ذكّر على النسب، كأنه قال: إن رحمة الله ذات قرب. وقيل: في غير النسب يجوز التذكير والتأنيث، يقال: دارك منا قريب، وفلانة منا قريب.
المفردات اللغوية:
{تَضَرُّعاً} تذللا، وهو إظهار ذل النفس وخضوعها {خُفْيَةً} سرا، وهو ضد العلانية {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت، والمراد: عدم الثواب وعدم الرضا عن الداعي.
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالشرك والمعاصي {بَعْدَ إِصْلاحِها} ببعث الرسل {خَوْفاً} من عقابه، والخوف: توقع الشر والمكروه {وَطَمَعاً} في رحمته، وهو توقع الخير.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الأدلة على توحيد الربوبية من كمال القدرة والتدبير، والحكمة والتصرف، أتبعه بالأمر بتوحيد الألوهية بإفراده تعالى بالعبادة والاشتغال بالدعاء والتضرع، فإن الدعاء مخ العبادة.
التفسير والبيان:
أرشد الله تعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم، فقال:{اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} أي ادعوا ربكم ومتولي أموركم والمنعم عليكم، متضرعين متذللين مستكينين، مع إسرار الدعاء وإخفائه، فالدعاء مخ العبادة. وفيه إيماء إلى ندب الدعاء خفية؛ لأنه أبعد عن الرياء، ولقوله تعالى:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف 205/ 7] وقوله بالثناء على زكريا: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا} [مريم 3/ 19].
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس
أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، اربعوا
(1)
على أنفسكم، فإنكم لا تدعون وأصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم».
وروى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري في الثواب عن أنس رضي الله عنه:
«دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» .
وروى أبو الشيخ ابن حبان في الثواب عن أنس رضي الله عنه: «دعوة في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» .
وقال الحسن البصري رحمه الله: «ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول:{اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} .
وذكر بعض العلماء: أن الأولى الإسرار بالدعاء في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية في الحج وتكبير العيدين.
{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} في الدعاء ولا في غيره، بتجاوز الحدود المأمور بها، والتجاوز هنا في ترك هذين الأمرين المذكورين: وهما التضرع والإخفاء.
وعدم المحبة: أي أن الله لا يثيبه البتة، ولا يحسن إليه، فظهر أن قوله تعالى:
{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء.
روى أحمد وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية:
{اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} الآية، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك
(1)
أي ارفقوا بأنفسكم.
الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل».
وكما أمر الله بدعائه والتضرع إليه، نهى عن الإفساد في الأرض، فقال:
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ..} . أي لا تفسدوا شيئا في الأرض بعد الإصلاح بما بناه المرسلون وأتباعهم المصلحون، وشيّده العقلاء المخلصون، من النواحي المادية والمعنوية، كتقوية وسائل الحياة من زراعة وصناعة وتجارة، وتهذيب الأخلاق، والحث على العدل والشورى والتعاون والتراحم.
والإفساد شامل إفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة والاحتيال، وإفساد العقول بشرب المسكرات ونحوها، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنى واللواطة والقذف.
وبعد أن أبان الله تعالى شرط الدعاء وهو التضرع والخفية، نبّه إلى بواعث الدعاء وموجباته، وأشعر أن من لا يدعو ربه على هذا النحو يكون أقرب إلى الإفساد، فقال:{وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} .
أي ادعوا الله خوفا من عقابه، وطمعا في جزيل ثوابه، فإن الدعاء مخ العبادة ولبّها، لذا صرح بفائدة الدعاء، وأنه مرجو الإجابة متى استكمل شرائطه وآدابه، فقال:{إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ.} . أي إن رحمة الله تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم، وهي مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف 156/ 7].
فمن أحسن الدعاء أعطي خيرا مما طلبه، أو مثله، أو دفع عنه من الشر مثله.