الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالتهديد بعذاب آخر يوم القيامة، وأبان أنه يسأل جميع الناس عن أعمالهم، سواء أهل العقاب وأهل الثواب. ولما بيّن في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة:
السؤال والحساب، بيّن أن من جملة أحوال القيامة أيضا وزن الأعمال.
التفسير والبيان:
يسأل الله تعالى الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ الرسالات.
فيسأل الله كل فرد من أفراد الأمم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته، ويسأل الرسل عن تبليغهم وعن مدى إجابة أقوامهم لهم، وعما صدر منهم من إيمان أو كفر، فهي مسئولية تضامنية عامة كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ، فَيَقُولُ: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص 65/ 28] وقال: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ: ماذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا: لا عِلْمَ لَنا، إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة 109/ 5] وقال: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟} [الأنعام 130/ 6] ويوضح هذه المسؤولية بين الراعي والرعية
ما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» .
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلّغوا.
والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم، فلما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين، سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير.
والتوفيق أو الجمع بين قوله: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} وبين قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن 39/ 55] وقوله: {وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص 78/ 28]: هو أن ليوم القيامة مواقف وأحوالا متعددة، فقد يكون السؤال والجواب في بعضها دون بعض، وقد يكون السؤال لأجل الاسترشاد والاستفادة، وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة.
وقال الرازي: إن القوم لا يسألون عن الأعمال؛ لأن الكتب مشتملة عليها، ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتهم عنها
(1)
، أي الموانع التي حالت بينهم وبين التزام الأحكام الشرعية.
فلنخبرن عن علم ومعرفة وإحاطة تامة الرسل وأقوامهم بكل ما حدث منهم، فلا يغيب عنا شيء قليل أو كثير، وإن كان مثقال ذرة من خردل في صخرة أو في السموات أو في الأرض. قال ابن عباس في آية:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} :
يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كان يعملون.
{وَما كُنّا غائِبِينَ} عنهم في وقت أو حال، بل كنا معهم نسمع قولهم، ونبصر فعلهم، ونعلم ما يسرون وما يعلنون، ونخبر العباد يوم القيامة بمنا قالوا وبما عملوا من قليل وكثير، وجليل وحقير؛ لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء، ولا يغفل عن شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، كما قال:{وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ}
(1)
تفسير الرازي: 23/ 14
{الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [الأنعام 59/ 6] فقوله: {وَما كُنّا غائِبِينَ} يعني كنا شاهدين لأعمالهم.
وهذا دليل على أن السؤال ليس للاستعلام والاستفهام عن شيء مجهول عن الله تعالى، بل للإخبار بما حدث منهم توبيخا وتقريعا على تقصيرهم وإهمالهم.
والمخبر به هو المحاسب عنه، وهو الذي يعقبه الجزاء. ثم بيّن تعالى قانون الحساب والجزاء فقال:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ..} ..
أي وزن الأعمال للرسل وأقوامهم والتمييز بين راجحها وخفيفها يوم القيامة يكون على أساس من الحق والعدل التام، فلا يظلم تعالى أحدا، كقوله:
{وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} [الأنبياء 47/ 21] وقوله: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء 40/ 4].
فمن ثقلت موازينه، أي رجحت موازين أعماله بالإيمان والحسنات على السيئات، فأولئك هم الفائزون بالجنة، الناجون من العذاب. والموازين جمع ميزان أو موزون، أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات أو ما توزن به حسناتهم.
ومن خفت موازين أعماله بسبب كفره وكثرة سيئاته، فأولئك الذين خسروا أنفسهم، إذ حرموها السعادة والفوز بالنعيم الأبدي، وصيروها إلى عذاب النار.
والفريق الأول وهم المؤمنون على تفاوت درجاتهم في الأعمال هم المفلحون، وإن عذاب بعضهم بقدر ذنوبه، والفريق الثاني وهم الكافرون على تفاوت دركاتهم هم الخاسرون حقا.
وهذا المعنى مكرر في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:
{فَأَمّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ: نارٌ حامِيَةٌ} [القارعة 6/ 101 - 11].
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة: هو الأعمال، وهي وإن كانت أعراضا معنوية إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما، كما يروى عن ابن عباس.
جاء في حديث البراء في قصة سؤال القبر: فيأتي المؤمن شاب حسن اللون، طيّب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح»
وفي حديث آخر أخرجه ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة عن ابن مسعود: يتمثل المال الذي لم تؤدّ زكاته لصاحبه بصورة ثعبان شجاع أقرع له زبيبتان، ثم يأخذ بلهزمتيه ويقول:
أنا مالك، أنا كنزك، ونصه: «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع حتى يطوّق به عنقه، ثم قرأ النّبي صلى الله عليه وسلم:{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران 180/ 3] الآية.
والدليل على أن الأعمال هي التي توزن:
ما أخرجه أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا: «توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة، دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة، دخل النار، قيل: ومن استوت حسناته وسيئاته؟ قال:
أولئك أصحاب الأعراف».
ونقل القرطبي عن ابن عمر أن التي توزن: صحائف أعمال العباد. وعقب عليه بقوله: وهذا هو الصحيح، وهو الذي
ورد به الخبر وهو: «أن ميزان بعض بني آدم كاد يخف بالحسنات، فيوضع فيه رقّ مكتوب فيه: لا إله إلا الله، فيثقل» فدل على وزن ما كتب فيه الأعمال، لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفّف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يوضع في كفّتيه من الصحف التي فيها الأعمال.