الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإعراب:
{كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} : الكاف في {كَما} في موضع نصب؛ لأنها صفة مصدر محذوف، تقديره: تعودون عودا مثل ما بدأكم.
{فَرِيقاً هَدى، وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} : {فَرِيقاً} الأول منصوب بهدى.
و {فَرِيقاً} الثاني منصوب بتقدير فعل دلّ عليه ما بعده، وتقديره: وأضل فريقا حق عليهم الضلالة. ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من ضمير {تَعُودُونَ} وتقديره: كما بدأكم تعودون في هذه الحالة.
المفردات اللغوية:
{فاحِشَةً} الفاحشة: هي الفعلة المتناهية في القبح، وهي كل معصية كبيرة، كالشرك وطوافهم بالبيت عراة، قائلين: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فنهوا عنها {أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} أنه قاله، وهو استفهام إنكاري.
{بِالْقِسْطِ} العدل والاعتدال والتوسط في جميع الأمور. {وَأَقِيمُوا} معطوف على معنى:
بالقسط، أي قال: أقسطوا وأقيموا. وإقامة الشيء: إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه، كإقامة الصلاة، وإقامة الوزن بالقسط. {وُجُوهَكُمْ} الوجه معروف وهو أشرف أعضاء الإنسان، والمراد هنا: إما العضو المعروف من الإنسان مثل قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} [البقرة 144/ 2] وإما كناية عن توجه القلب وصحة القصد، مثل قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم 30/ 30].
{عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي أخلصوا له سجودكم. {وَادْعُوهُ} اعبدوه. {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} من الشرك. {كَما بَدَأَكُمْ} خلقكم ولم تكونوا شيئا. {تَعُودُونَ} أي يعيدكم أحياء يوم القيامة.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلطين عليهم، ذكر هنا أثرا من آثار تسلط الشياطين على الذين لا يؤمنون، وهو طاعتهم لهم.
التفسير والبيان:
وإذا فعل المشركون فعلة فاحشة قبيحة ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم
كالشرك والطواف بالبيت عراة رجالا ونساء، والأولى الحكم بتعميم معنى الفاحشة: وهي كل معصية كبيرة، فيدخل فيه جميع الكبائر، قالوا: نحن في هذا مقلدون للآباء، متبعون للأسلاف، ويعتقدون أنها طاعات، وأن الله أمرهم بها، وهي في أنفسها فواحش، فكانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش وهم لا يدركون فحشها بأمرين: أحدهما: أنا {وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا} والثاني:
أما الحجة الأولى-فلم يجب الله عنها؛ لأنها إشارة إلى محض التقليد، وهو عقلا طريقة فاسدة، وفسادها ظاهر جلي لكل أحد، فلم يحتج إلى الجواب عنه.
وأما الحجة الثانية وهي قولهم: {وَاللهُ أَمَرَنا بِها} فقد أجاب عنه تعالى بقوله: {قُلْ: إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ} أي إن هذه الأفعال منكرة قبيحة على لسان الأنبياء والمرسلين، والله بكماله منزه عن أن يأمر بها، فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمر بها؟! والواقع إنما يأمر بها الشيطان، كما قال تعالى:{الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ} [البقرة 268/ 2].
ثم أنكر الله تعالى عليهم قولهم باستفهام إنكاري فقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ..} . أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته؟! فتشريع الله لا يثبت إلا بوحي منه إلى رسوله، وأنتم تعملون بوحي الشيطان، وتفترون على الله الكذب، فهذا إنكار لإضافتهم القبيح إلى الله، وشهادة على أن مبني قولهم الجهل المفرط.
وبعد أن أنكر تعالى صدور الأمر عنه بالفحشاء، أعلن أنه إنما يأمر بالقسط والعدل:{قُلْ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} أي قل يا محمد لهم: إنما يأمر ربي بالعدل والاستقامة والتوسط في الأمور دون إفراط ولا تفريط.
وأمر ربي بإيفاء عبادته حقها، وأن تقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها، في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود، وهو الصلاة، واعبدوه (ادعوه) مخلصين له الدين، أي الطاعة، مبتغين بها وجه الله خالصا.
أي إن هذه الآية تأمر بشيئين: 1 - الاستقامة في العبادة في أوقاتها ومحالّها، كما جاء بها الأنبياء والمرسلون المؤيدون بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وما جاؤوا به من الشرائع. 2 - الإخلاص لله في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابا موافقا للشريعة، وأن يكون خالصا من الشرك
(1)
.
ثم احتج تعالى عليهم في إنكارهم الإعادة والبعث: بابتداء الخلق، فقال:
{كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} أي كما أنشأكم ابتداء يعيدكم، فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة.
وأنتم حال البعث والحساب بين فريقين: فريق هداه الله ووفقه للعبادة والإيمان والإخلاص، وهم الذين أسلموا، وفريق حقت عليه كلمة العذاب والصرف عن طريق الثواب، وحق عليه الضلالة لاتباعه إغواء الشيطان وإعراضه. عن طاعة الله، وعلم الله أن أفراد هذا الفريق يضلون ولا يهتدون.
فسبب ثبوت الضلالة على هذا الفريق: هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، فقبلوا ما دعوهم إليه، ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل.
إن الفريق الذين حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين أولياء أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به. وهذا دليل على أن علم الله بضلالهم لا أثر له في ضلالهم، وأنهم-كما قال الزمخشري المعتزلي-هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين، دون الله سبحانه.
(1)
تفسير ابن كثير: 208/ 2
وأما على رأي أهل السنة القائلين بأن الهدى والضلال من الله تعالى، فالمعنى أن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء، ولكن الداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هي أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله.
والفريق الثاني يتصف بصفة أخرى هي أنهم يظنون أنهم مهتدون أي على بصيرة وهداية، وهم في الحقيقة ضالون مخطئون:{قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف 103/ 18 - 104].
ويؤكد معنى الآية في الفريق الثاني
ما رواه مسلم عن عياض بن حمار قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم، عن دينهم» .
وفسّر بعضهم: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} بأنه كما خلقناكم؛ فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم. قال ابن عباس:
إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا، كما قال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن 2/ 64] ثم يعيدهم كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا. وهذا موافق
لحديث ابن مسعود في صحيح البخاري: «فو الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» .
وبناء على هذا التأويل يكون هناك تعارض بينه وبين قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها} [الروم 30/ 30] ومثله ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل