الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{اِسْتَوى} في اللغة: استقر، أو قصد أو استولى وملك، والمراد أنه يتصرف فيه بما يريد وقد استوى استواء يليق به {الْعَرْشِ} لغة: سرير الملك، أو كل شيء له سقف، أو هودج المرأة، أو الملك والسلطان، يقال: ثلّ عرشه، أي ذهب ملكه وزوال أو هلك. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} أي يغطي كلا منهما بالآخر، ويجعل الليل كالغشاء، أي يذهب نور النهار {يَطْلُبُهُ} يطلب كل منهما الآخر {حَثِيثاً} أي طلبا سريعا من غير فتور {مُسَخَّراتٍ} مذلّلات خاضعات لتصرفه {بِأَمْرِهِ} بقدرته وتدبيره وتصرفه {الْخَلْقُ} إيجاد الأشياء من العدم بقدر، فله الخلق جميعا {وَالْأَمْرُ} كله، أي التدبير والتصرف كما يشاء {تَبارَكَ اللهُ} تعاظم وتنزّه، أو كثر خيره وإحسانه {رَبُّ الْعالَمِينَ} مالك العوالم من الجن والإنس.
المناسبة:
إن مدار القرآن على إثبات أسس أربعة: وهي التوحيد، والنبوة، والمعاد، والقضاء والقدر. وإثبات المعاد متوقف على إثبات التوحيد والقدرة والعلم.
فلما قرر الله تعالى أمر المعاد، وذكر ما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة وأصحاب الأعراف، عاد إلى ذكر أدلة التوحيد، وكمال القدرة، والعلم، لتكون دليلا على الربوبية والألوهية وإثبات المعاد.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه خالق الكون أو العالم كله سماواته وأراضيه السبع، وما بين ذلك في ستة أيام، وهي ما عدا السبت، وقد اجتمع الخلق كله في الجمعة، الذي فيه خلق آدم عليه السلام. وأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت وهو القطع، وهذا من الأخبار الإسرائيلية.
والمتبادر إلى الأذهان أن هذه الأيام مقدرة بأيام الدنيا؛ لأنه لم يكن ثمّ شمس، ووجدت هذه الأشياء المخلوقة بعد خلق هذه الأرض. ورأى مجاهد وأحمد بن حنبل: أن كل يوم كألف سنة، كما قال تعالى:
{وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ} [الحج 47/ 22] وأما يوم القيامة فقال الله في وصفه: {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج 4/ 69].
ومعنى الآية: إن ربكم ومالك أمركم أيها الناس هو الله وحده لا شريك له، وهو الذي أوجد السموات والأرض، وقدرهما، ودبر أمورهما وأحكم نظامهما في ستة أيام، إما مقدرة بأيام الدنيا، وإما أن الله أعلم بمقدارها وحدودها، ولو شاء خلّقها في لحظة لخلقها، وإنما أراد تعليم خلقه التثبت في الأمور:{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ} [يس 82/ 36] وذلك الخلق والتكوين ليس بالهين وهو دليل على القدرة التامة: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ} [غافر 57/ 40].
وكان خلق الأرض في يومين، وخلق الجبال الرواسي وأنواع النبات والحيوان في يومين آخرين، كما قال تعالى:{قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ، سَواءً لِلسّائِلِينَ} [فصلت 9/ 41 - 10].
وخلق السموات وما فيها من أجرام وكواكب في يومين، كما قال تعالى:
ثم إنه تعالى بعد هذا الخلق استوى على عرشه، يدبر أمره، ويصرف نظامه، على نحو يليق به، غير مشابه لشيء من المخلوقات والحوادث. فاستواؤه على العرش: هو انفراده بتدبير السموات والأرض، واستيلاؤه على زمام الأمور والسلطة فيهما. ونحن نؤمن كإيمان الصحابة باستواء الله على العرش بكيفية تليق به، من غير تشبيه ولا تكيف، أي من غير تحديد بجهة، ولا تقدير بكيف أو
وصف، وتترك معرفة الحقيقة إلى الله، وهذا ما قرره الإمام مالك ومن قبله شيخة ربيعة، فقال: الاستواء معلوم (أي في اللغة) والكيف (أي كيفية الاستواء) مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وهذا القدر كاف في الموضوع.
وقال الحافظ ابن كثير: مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، هو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل.
والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبّهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى 11/ 42].
بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حمّاد شيخ البخاري قال: من شبّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى
(1)
.
وأما الخلف فيتأولون ويقولون: استوى على عرشه بعد تكوين خلقه، بمعنى أنه يدبر أمره، ويصرّف نظامه، على حسب تقديره وحكمته، كما قال:
ثم بيّن الله تعالى بعض مظاهر تدبيره الكون فقال: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ..} . أي أنه تعالى يلحق الليل بالنهار، أو النهار بالليل، يحتملهما جميعا على التعاقب، ويذهب ظلام الليل بضياء النهار، وضياء النهار بظلام الليل، وكل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، أي سريعا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا
(1)
تفسير ابن كثير: 220/ 2
جاء هذا وعكسه. والمراد أنه يعقبه سريعا دون وجود فاصل أو تأخر، مثل قوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس 37/ 36 - 40].
وفي تعاقب الليل والنهار منافع كثيرة، إذ بتعاقبهما يتم أمر الحياة، وتتحقق مصالح الناس.
وقد تأيد هذا الطلب السريع بما أثبته العلم الحديث من كروية الأرض ودورانها على محورها حول الشمس، فيكون نصف كرتها مضيئا بالشمس، والنصف الآخر مظلما، فإذا كان الوقت نهارا في الشرق الأوسط مثلا، كان الوقت ليلا في أمريكا الجنوبية وطوكيو-اليابان. وقد سبق إلى ما قرره العلماء المعاصرون كثير من علماء الإسلام كالغزالي والرازي وابن تيمية وابن قيّم الجوزية.
ومن مظاهر التدبير الإلهي للكون: خلقه الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب، وكونها جميعا تحت قهره وتسخيره ومشيئته، أي أنها خاضعة لأمره وتصرفه. لذا قال:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} أي أنه هو الخالق المبدع المالك، المتصرف المدبر، فمعنى {لَهُ الْخَلْقُ} أي له ملك المخلوقات كلها كبيرها وصغيرها، ومعنى له {الْأَمْرُ} أي التصرف والتدبير، ليس لأحد شيء.
{تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} أي تعاظم وتنزّه، وانفرد بالربوبية، وكل ما في العالم من الخيرات الكثيرة منه، فعلى عباده شكره عليها، وعبادته دون غيره. كقوله:{تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك 1/ 67] وقوله: {تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [الفرقان 61/ 25].