الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشريع، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا خالق عداه، ولا مشرّع في عبادة وتحليل وتحريم غيره، فقال:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ} .
وفي ثنايا إبراز مظاهر القدرة الإلهية امتن الله على المشركين وغيرهم بما يسره لهم من الرزق، وندد بما افتروه على الله من الكذب من الشرك وعدم الإيمان بالقضاء والقدر.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار، والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة وقسموها، فجعلوا منها حراما وحلالا، فقال:
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ..} ..
أي إن الله هو الذي أوجد البساتين والكروم المشجرة، سواء منها المعروش أي الذي يحمل على العرش: وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ويوضع الكرم عليها، وغير المعروش: وهو الملقى على وجه الأرض، أو المستغني باستوائه على سوقه عن التعريش كبقية أشجار الفاكهة، حتى بعض كروم العنب نفسها، منها المعروش وغير المعروش. وخلق أيضا النخل والزرع المختلف الطعم واللون والرائحة والشكل. وأفرد النخل بالذكر لكثرته عند العرب، ولجماله، ولما له من منافع كثيرة بكل أجزائه، ولبقاء ورقه دون سقوط في مختلف الفصول، حتى شبّه المؤمن في الحديث النبوي به.
وأنشأ سبحانه الزرع المختلف الأنواع والأكل: وهو الثمر المأكول، والذي به حياة بني آدم، وهو يشمل كل ما يزرع صيفا وشتاء، وأفرده الله بالذكر كالنخل، كما فيهما من الفضيلة.
وقد ذكرت هذه الأنواع على طريق الترقي من الأدنى في التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم، فإن الحبوب هي الغذاء الأساسي.
وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه في الطعم والأكل.
وكل هذه الأنواع يسقي بماء واحد وفي تربة واحدة، ولكن كل نوع يختلف عن الآخر طعما ولونا ورائحة ووقت نضج يتناسب مع حاجة الإنسان في زمن البرد والحر والاعتدال، مما يدل على قدرة الخالق عليها، وإبداع المنشئ المكون لأصنافها، وذلك هو الله الواحد الأحد المتفرد بإمداد الرزق وبالتشريع المناسب.
وقد أباحها الله الإنسان وامتن بإنعامه بها عليه، فقال:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ} أي كلوا من ثمرات ما أنبت الله إذا أثمر ولو لم ينضج، وفائدة التقييد بقوله:{إِذا أَثْمَرَ} الترخيص للمالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى وهو الزكاة.
ثم جاء التكليف الواجب فيها وهو الزكاة المفروضة، فقال تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} أي وأخرجوا الزكاة المفروضة فيه يوم الحصاد: وهو وقت قطعه بعد تمام نضجه، ويتبعه زمن الدوس، لفصل الحب عن التبن، ويدخل في الحصاد: جني العنب وصرم النخل وقطف الفاكهة. والحق المفروض: هو العشر فيما سقي بالمطر، ونصف العشر فيما سقي بالنهر والبئر ونحوهما من الينابيع. ويعطى الحق المقرر شرعا للمستحقين وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين.
وللعلماء رأيان في الحق الواجب في الثمر، فقال ابن عباس: إنه الزكاة المفروضة، وهي العشر أو نصفه.
وروي عن ابن عباس أيضا وهو قول سعيد بن جبير: إنه ما كان يتصدق به على المساكين يوم الحصاد. وكان ذلك واجبا من غير تعيين المقدار؛ لأن هذه
الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة، فنسخ هذا الواجب بافتراض العشر ونصف العشر، وهو الزكاة.
وقيل: إن الآية مدنية، والحق أن المراد بها هو الزكاة المفروضة، والمعنى:
واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.
ثم نبّه القرآن إلى منهجه المعروف وهو الوسطية والتوسط في الأمور والاعتدال في كل شيء، فقال تعالى:{وَلا تُسْرِفُوا..} . أي كلوا مما رزقكم الله من غير إسراف في الأكل، كما قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف 31/ 7] ولا تسرفوا أيضا في الصدقة، كما روي عن ثابت بن قيس بن شماس أنه صرم خمسمائة نخلة، ففرق ثمرها كله، ولم يدخل شيئا إلى منزله، كما قال تعالى:{وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء 29/ 17].
وقال الزّهري: المعنى: لا تنفقوا في معصية الله، وروي نحوه عن مجاهد فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم أنه قال: لو كان أبو قبيس-جبل بمكة-ذهبا، فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى، لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا. ومن هذا الاتجاه قول بعض الحكماء: لا سرف في الخير، ولا خير في السّرف.
والحق: أن الإسراف في كل شيء خيرا كان أو غيره خطأ، سواء في الأكل أو التّصدق؛ لأن على الإنسان واجب الإنفاق على نفسه وعلى أهله وذويه وأولاده، حتى إنه إن لم يكن له أولاد، فادّخار شيء من دخله أمر محمود، لإنفاقه في حوائج المستقبل، وحتى لا يصبح عالة على الآخرين، ولذا يحجر على السّفيه المبذر شرعا، ولو كان الإنفاق في سبل الخير. جاء في صحيح البخاري تعليقا:
ومن تمام فضل الله ونعمته ورحمته أنه أنشأ لكم أيها الناس من الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) كبارا صالحة للحمل، وصغارا كالفصلان، والغنم والمعز، هي كالفرش المفروش عليها، تفرش على الأرض للذّبح، ويتّخذ من شعرها ووبرها الفرش واللباس. وهذا مثل قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ} [يس 71/ 36 - 72]، وقوله:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ} [النحل 66/ 16].
ثم كرر الله تعالى إباحة الأكل من الأنعام كإباحته من الزّرع، فقال:{كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ} أي كلوا من هذه الأنعام، كما تأكلون من الثمار والزّروع، فكلها خلقها الله، وجعلها رزقا لكم، وانتفعوا بها بسائر أنواع الانتفاع المباحة شرعا.
ولا تتبعوا خطوات الشّيطان، أي طريقه وأوامره، كما اتّبعها المشركون الذين حرّموا ما رزقهم الله من الثّمار والزّروع والأنعام، افتراء على الله، وإيّاكم أن تحرّموا ما لم يحرّمه الله عليكم، فذلك إغواء من الشّيطان، والله قد أباحها لكم، والله مصدر التّشريع والتّحريم والتّحليل؛ لأنه هو الخالق المبدع لجميع الكائنات، وهو المتصرّف فيها، فليس لغيره أن يحرّم أو يحلّل برأيه.
إن الشّيطان لكم أيها الناس عدوّ مبين، أي بيّن ظاهر العداوة، لا يأمر إلا بالسّوء والفحشاء والمنكر، كما قال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ، لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ} [فاطر 6/ 35]، وقال:
{إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} [البقرة 169/ 2].
والأنعام التي هي حمولة وفرش ثمانية أصناف، فإنّ الحمولة: إما إبل وإما بقر، والفرش: إما ضأن وإما معز، وكلّ قسم من هذه الأربعة: إما ذكر وإما
أنثى، وقد أنشأ الله من الضّأن زوجين اثنين: الكبش والنّعجة، ومن المعز زوجين اثنين: التّيس والعنزة، ومن الإبل اثنين: الجمل والنّاقة، ومن البقر اثنين: الثّور والبقرة.
قال لمشركي العرب أيّها الرّسول إنكارا لصنعهم بتقسيم الأنعام إلى بحيرة وسائبة ووصيلة وحام وغير ذلك مما ابتدعوا فيها: أحرم الله الذّكرين من الكبش والتّيس؟ أم حرّم الأنثيين من النّعجة والعنز؟ أم حرّم ما حملت إناث النّوعين؟ يعني هل يشتمل الرّحم إلا على ذكر أو أنثى، فلم تحرمون بعضا وتحلّون بعضا؟ أخبروني عن يقين، كيف حرّم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك؟ أخبروني ببيّنة تدلّ على هذا التّحريم من كتاب الله، أو خبر نبي من الأنبياء إن كنتم صادقين في ادّعاء التّحريم.
والحقيقة أنه لا منطق في تقسيم العرب في الجاهلية قبل الإسلام لأنواع الأنعام، فمنها الحرام ومنها الحلال، فإن كان المحرّم منها الذّكر، وجب أن يكون كلّ ذكورها حراما، وإن كان المحرّم منها الأنثى، وجب أن يكون كلّ إناثها حراما، وإن كان المحرّم منها ما حملته الأجنّة في بطون الإناث، وهي تشتمل على الذّكر والأنثى، وجب تحريم الأولاد كلّها.
والله تعالى ما حرّم عليهم شيئا من هذه الأنواع، وإنهم لكاذبون في دعوى التّحريم، ولا أحد في الدّنيا أظلم ممن يفتري الكذب على الله، فيدّعي أنه حرّم شيئا ولم يحرّمه، ونسب إليه تحريم ما لم يحرم، من أجل إضلال النّاس، وهو عمرو بن لحيّ بن قمعة الذي بحر البحائر، وسيّب السّوائب، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، وغيّر دين الأنبياء، إن الله لا يهدي إلى الحقّ والخير القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم، فشرعوا ما لم يشرع الله تعالى.
ثمّ شدّد الله تعالى الإنكار عليهم والتّهكم بهم فقال: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ.} .