الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الحياة أو الأحكام:
لم يترك الإسلام أو القرآن شيئا من شؤون الحياة المادية والمعنوية إلا أبانها وأوضح أحكامها ومقاصدها، فلم يقتصر على وضع أنظمة التشريع للعلاقات الاجتماعية فحسب، وإنما وضع أنظمة الحياة كلها، مما يدل على أن القرآن شريعة الحياة.
ومن هذه الأنظمة وجوب ارتداء الملابس والثياب الحسنة وستر العورة؛ لأنه مظهر حضاري رفيع، ومنها إباحة المآكل والمشارب وطيبات الرزق من غير تقتير ولا إسراف، ولا بخل ولا ترف. وهذا دليل على منهج الإسلام في التوسط بالأمور؛ لأنه دين الوسطية.
ومن ألزم حالات الستر: أثناء الصلاة وعند تجمع الناس للطواف بالبيت الحرام وغيره.
وقد دلت آية {خُذُوا زِينَتَكُمْ} على وجوب ستر العورة. وذهب جمهور العلماء إلى أنه فرض من فروض الصلاة. بل هو-كما قال الأبهري-فرض في الجملة، وعلى الإنسان ستر عورته عن أعين الناس في الصلاة وغيرها، وهو الرأي الصحيح:
لقوله صلى الله عليه وسلم-فيما أخرجه مسلم-للمسور بن مخرمة: «ارجع إلى ثوبك، فخذه، ولا تمشوا عراة» .
ودلّ قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} على إباحة الأكل والشرب، ما لم يكن سرفا أو مخيلة، أي كبر. قال الجصاص: ظاهر الآية يوجب الأكل والشرب من غير إسراف، وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال، والإيجاب في بعضها، أما الإباحة ففي الحال التي لا يخاف الضرر بتركهما، وأما الإيجاب ففي الحال التي يخاف لحوق الضرر بترك الأكل والشرب أو الضعف عن أداء الواجبات. وظاهر الآية يقتضي جواز أكل سائر المأكولات وشرب سائر
الأشربة مما لا يحظره دليل، بعد أن لا يكون مسرفا فيما يأتيه من ذلك، لأنه أطلق الأكل والشرب على شريطة ألا يكون مسرفا فيهما
(1)
.
فأما ما تدعو الحاجة إليه: وهو ما سد الجوعة، وسكّن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا؛ لما فيه من حفظ النفس والجسد؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يضعف الجسد، ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وهو أمر يمنع منه الشرع، ويدفعه العقل.
وأما تناول الزائد عن الحاجة فقيل: حرام، وقيل: مكروه. قال ابن العربي: وهو الأصح؛ فإنّ قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطّعمان
(2)
.
وقد رغب النّبي صلى الله عليه وسلم في تقليل الطعام،
فقال فيما رواه الترمذي عن المقدام بن معديكرب: «ما ملأ آدمي ووعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» .
وروى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معى واحد» المعى: المعدة. والمعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء، والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد، فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثاله؛ لأن فقد الإيمان يجعله مقبلا على انتهاب اللذات والمتع المادية.
والإسراف بكثرة الأكل والشرب ممنوع شرعا؛ لأن التخمة بالأكل تربك أعضاء الهضم، وتذهب الفطنة، وكثرة الشرب تثقل المعدة، وتثبط الإنسان عن
(1)
أحكام القرآن: 33/ 3
(2)
أحكام القرآن: 771/ 2
القيام بواجبه الديني والدنيوي، فإن أدى الإسراف إلى المنع من القيام بالواجب حرم، وكان في عداد المسرفين الذين يعاقبهم الله تعالى.
ومن الإسراف: تحريم ما لم يحرمه الله على الناس. وقد أنكر الله على من حرّم من تلقاء نفسه من الزينة وهي الملبس الحسن، ما لم يحرّمه الله على أحد.
ودلت آية: {قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ} على مشروعية لباس الرفيع من الثياب، والتجمّل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان.
قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجمّلوا.
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلّة سيراء
(1)
تباع عند باب المسجد، فقال:
يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة» فما أنكر عليه ذكر التجمّل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» .
وليس لبس الخشن من الثياب سببا في زيادة التقوى، بالتذرع بقوله تعالى:{وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} فإن كبار الصالحين كانوا يتجملون بالثياب الجياد للجمعة والعيد ولقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود قبيحا عندهم، وقد اشترى تميم الداري حلّة بألف درهم، كان يصلي فيها، وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد.
وروى مسلم عن ابن مسعود في النظافة وتحسين الهيئة: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس» .
(1)
سيراء: نوع من البرود فيه خطوط صفر، أو يخالطه حرير.
وطيبات الرزق حلال، وهي اسم عام لكل ما طاب كسبا وطعما. وهي مستحقة في الأصل للمؤمنين المصدقين بوجود الله، الموحّدين له، وغيرهم تبع لهم يستمعون بها في الدنيا مع المؤمنين. أما في الآخرة فهي خاصة بالذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء، كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها.
والخلاصة: الإسلام دين الواقع والحياة، فهو يجمع بين المادة والروح، ويستهدف الكمال المعنوي بالإيمان والأخلاق، والكمال المادي بقوة الأجساد التي تكون عونا على أداء العبادات والجهاد في سبيل الله، فالاستغناء عن الطعام والشراب فيه إضعاف البدن، ويؤدي إلى التقصير في الواجبات.
وليست المظاهر من لبس الثياب الجميلة مخلّة بالتقوى والتدين، كما أن التقشف والزهد المبالغ فيه لحرمان النفس من متع الحياة المباحة ليس مرغوبا فيه شرعا.
وإنما المهم إصلاح النفس بالأخلاق، وعمارة القلب بالإيمان، وتزكية النفس بالعمل الصالح والجهاد.
ولا يعقل أن يكون دين الله سببا لإضعاف أحد، أو لتأخر الأمة، وإنما الضعف أو التخلف ناجم من كسل الناس وتراخيهم وجهلهم، وتفكك جماعتهم، وتنافرهم وتباغضهم.
فالإنسان مستخلف عن الله في الأرض، وهو أمين على ما فيها من خيرات وكنوز ومنافع، ومسئول عن القيام بواجبه في تقدم الحياة وإصلاح العمران، والسبق في الحياة بمختلف أنماطها الزراعية والصناعية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية.