الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْإِنْسِ} {اِسْتَكْثَرْتُمْ} أخذتم الكثير بإغوائكم. {وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ} الذين أطاعوهم في وسوستهم.
{اِسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ} أي انتفع الإنس بتزيين الجنّ لهم الشّهوات، والجنّ بطاعة الإنس لهم.
{وَبَلَغْنا أَجَلَنَا} وصلنا يوم البعث والجزاء أو الموت. {خالِدِينَ فِيها} الخلود: المكث الطويل غير المحدد بوقت.
{النّارُ مَثْواكُمْ} مأواكم. {إِلاّ ما شاءَ اللهُ} من الأوقات التي يخرجون فيها لشرب الحميم، فإنه خارجها، كما قال تعالى:{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات 68/ 37] أو ينقلون من عذاب النار إلى عذاب الزّمهرير. {حَكِيمٌ} في صنعه. {عَلِيمٌ} بخلقه.
المناسبة:
هذه الآيات استمرار في مناقشة مواقف تعنّت المشركين والرّدّ عليهم وتفنيد حججهم وشبهاتهم، وهي الآن تحسم الأمر، فتوضح أنهم ليسوا أهلا للإيمان، وغير مستعدّين لقبوله، كما أوضح في الآية السابقة أنهم غير أهل للنّبوة. وعلى كلّ حال: طريق الحقّ قد بان لكلّ ذي بصيرة، ومنهج الاستقامة الذي يرضي الله قد تجلّى لكلّ البشريّة، فمن قبله فله دار السّلامة، ومن أعرض عنه فله عذاب النار. وقبل هذا الجزاء يوجد الحشر والحساب، وإقامة الحجّة على الكفار.
التفسير والبيان:
عرف من الآية السابقة أن المشركين سيلقون جزاء عنادهم وغرورهم، وهنا كلمة الفصل: وهي أن الأمر كله لله، فلا يهتمن أحد، ولا يحزن على إعراض المشركين عن دعوة الإسلام، فمن يرد الله أن يوفقه للحقّ والخير والإسلام، ومن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبول دعوة القرآن، فإنه يشرح صدره له، وييسره وينشطه ويسهله لذلك، كقوله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزّمر 22/ 39]، وقوله:{وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات 7/ 49].
قال ابن عباس في آية {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} : يقول تعالى: يوسّع
قلبه للتوحيد والإيمان به. وهو تفسير ظاهر مقبول.
وجاء في حديث رواه عبد الرزاق عن أبي جعفر: وسئل النّبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يقذف فيه، فينشرح له وينفسح» قالوا:
فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري عن أبي جعفر أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: «إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح» قالوا: يا رسول الله، هل لذلك من أمارة؟ قال:«نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت»
(1)
.
وإلقاء هذا النور يكون في موضعه: في النفس التي حسنت فطرتها، وطهرت، وكان فيها استعداد للخير، وميل إلى اتباع الحق.
ومن فسدت فطرته بالشرك، وتدنست بالآثام يجد في صدره ضيقا شديدا عازلا له عن الإيمان، كاتما له عن نفاذ الخير إليه، مثله كمثل من يصعد إلى السماء في طبقات الجو العليا حيث يشعر بضيق شديد في التنفس، وكأنما يزاول أمرا غير ممكن، لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة.
وكما يجعل الله صدر من أراد إضلاله لفقد استعداده للإيمان ضيقا حرجا، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله، فيغويه ويصده عن سبيل الله سبيل الحقّ
(2)
. والرجس: كما قال مجاهد: كل
(1)
تفسير الطبري: 20/ 8
(2)
المرجع السابق: 24/ 8
مالا خير فيه، أو كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: العذاب باعتبار أنه الفعل المؤدي إلى الرجس، من الارتجاس وهو الاضطراب. وقال الزمخشري: الرجس يعني الخذلان ومنع التوفيق.
{وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} أي وهذا الإسلام الذي يشرح له صدر من يريد هدايته، هو طريق ربك الذي ارتضاه للناس واقتضته الحكمة، وأكد ذلك بقوله:{مُسْتَقِيماً} أي طريقا سويا لا اعوجاج فيه؛ لأن صراط الله تعالى لا يكون إلا مستقيما، وغيره من السبل معوج منحرف، كما
قال النّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أحمد والترمذي عن علي في وصف القرآن: «هو صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والنور المبين» .
{قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي قد وضحناها وبيناها وفسرناها لقوم لهم فهم ووعي يعقلون عن الله ورسوله.
ولهؤلاء القوم الملتزمين طريق الاستقامة دار السلامة والطمأنينة وهي الجنة؛ لأنهم التزموا منهج الأنبياء {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي يوم القيامة. والله وليهم أي متولي أمورهم وكافيهم، جزاء على صالح أعمالهم.
واذكر يا محمد فيما نقصه عليك وتنذرهم به يوم نحشر الإنس والجن جميعا، ونقول: يا جماعة الجن قد استكثرتم من إغواء الإنس وإضلالهم، كما قال تعالى:
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس 62/ 36]. ويقول الذين أطاعوا الجن واستمعوا إلى وسوستهم وتولوهم، من الإنس، في جواب الله تعالى: انتفع كل منا بالآخر، انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم.
وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا أي الموت، أو أنهم يعنون يوم البعث. وهذا