الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} الآية. وأذّن مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا يطوف بالبيت عريان.
قال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: يا رسول الله، نحن أحق بذلك، فأنزل الله تعالى:{وَكُلُوا} أي اللحم والدسم {وَاشْرَبُوا} .
المناسبة:
بعد أمر الله تعالى عباده بالقسط: العدل والاستقامة في كل الأمور، طلب إلينا أخذ الزينة في كل مجتمع للعبادة، صلاة أو طوافا، وأباح لنا الأكل والشرب من غير إسراف.
قال ابن عباس: إن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب.
التفسير والبيان:
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل عبادة من صلاة أو طواف، والبسوا ثيابكم حينئذ، والمراد بالزينة: الثياب الحسنة، وأقلها ما به تستر العورة. فستر العورة واجب في الصلاة والطواف، وما بعد العورة يسن ستره ولا يجب. وعورة الرجل كما عرفنا في الآيات السابقة: ما بين السرة والركبة، وعورة المرأة جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين.
واللباس مظهر حضاري رفيع، والأمر بارتداء الثياب وستر العورة من محاسن الإسلام، والإسلام هو الذي نقل القبائل العربية وغيرها من الأفارقة من البدائية والتخلف والتوحش إلى المدينة والحضارة.
ويؤيد مدلول الآية في إيجاب الستر
ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله عز وجل أحق من تزيّن له، فإن لم يكن له ثوبان، فليتّزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود» .
وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء» .
ثم أباح الله الأكل والشرب من غير إسراف فقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا.} .
أي كلوا واشربوا من الطيبات المستلذات، ولا تسرفوا فيها، بل عليكم بالاعتدال من غير تقتير ولا إسراف، ولا بخل ولا زيادة إنفاق، ولا تجاوز الحلال إلى الحرام في المأكل والمشرب، إن الله لا يحب المسرفين، في الطعام والشراب، أي يعاقبهم على الإسراف الذي يؤدي إلى الضرر.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا، واشربوا، والبسوا، وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» .
وروى النسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أيضا بلفظ: «كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة» .
وروى الإمام أحمد والنسائي والترمذي عن المقدام بن معديكرب قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، حسب
ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه».
قال بعض السلف: جمع الله الطبّ كله في نصف آية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، وَلا تُسْرِفُوا} .
يذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال: قوله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه» الحديث، فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا
(1)
.
وقال البخاري: قال ابن عباس: «كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة» أي كبر وإعجاب بالنفس.
والإسراف: تجاوز الحد في كل شيء. والله تعالى يحب إحلال ما أحل، وتحريم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به، فلا يصح تجاوز الحد الطبيعي كالجوع والعطش والشّبع والرّي، ولا المادي بأن تكون النفقة بنسبة معينة من الدّخل لا تستأصله كله، ولا الشرعي فلا يجوز تناول ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله، والخمر، إلا للضرورة، ولا يحل الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، ولا لبس الحرير الطبيعي أو تشبه الرجال بالنساء أو بالعكس.
وبناء عليه يكون فعل كل من البخلاء والمترفين المسرفين حراما لا يسوغ
(1)
تفسير القرطبي: 192/ 7، محاسن التأويل للقاسمي: 2664/ 7
شرعا،
أخرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» .
وأكد تعالى سنته وشريعته القائمة على الاعتدال، فرد على من حرم شيئا من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، فقال:
{قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ..} .؟ أنكر الله تعالى على أولئك الذين حرموا المباحات، وأمر نبيه أن يقول مستفهما استفهام إنكار من هؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: من حرم الزينة والطيبات من الرزق التي خلق الله موادها لعباده، وعلّمهم بما ألهمهم وأودع في فطرهم كيفية صنعها والانتفاع بها، فهي مستحقّة مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وغيرهم تبع لهم، فإن أشركهم فيها الكفار فعلا في الدنيا، فهي للمؤمنين خاصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار؛ فإن الجنة محرمة على الكافرين.
ومثل هذا التفصيل التام لحكم الزينة والطيبات، نفصل الآيات الدالة على كمال الشرع والدين وصدق النبي وإتمام الشريعة لقوم يعلمون علوم الاجتماع والنفس والطب ومصالح البشر، فيتدبرون ويتعظون، لا لقوم يجهلون هذه العلوم والمعارف اللازمة لتقدم الإنسان والحضارة والمدينة والعمران، فمعنى قوله:
{كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصّل لكم ما تحتاجون إليه.
وكل هذا دليل على أن الإسلام دين الكمال الروحي والعقيدة السليمة، والسمو الخلقي، وقوة الجسد والنفس للتغلب على مصاعب الحياة، وتأدية رسالة الإنسان الذي جعله الله خليفة عنه في الأرض، وسخر له كل ما في السموات والأرض فقال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة 29/ 2] وقال:
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} [لقمان 20/ 31].