الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والشر. {ما وَعَدَ رَبُّكُمْ} من العذاب وتسميته هنا وعدا تهكم أو من قبيل المشاكلة. {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى مناد، والأذان: رفع الصوت بالإعلام بالشيء. {لَعْنَةُ اللهِ} اللعنة: الطرد من رحمة الله مع الإهانة والخزي. {وَيَبْغُونَها} يطلبون السبيل. {عِوَجاً} معوجا أو ذا عوج أي غير مستقيم، والعوج: للمرئيات، والعوج: لغير المرئي كالقول والرأي. {حِجابٌ} حاجز أو سور بين الجنة والنار. {وَعَلَى الْأَعْرافِ} جمع عرف وهو أعلى الشيء وكل مرتفع من الأرض وغيرها، والمراد هنا: سور الجنة. {رِجالٌ} استوت حسناتهم وسيئاتهم. {بِسِيماهُمْ} بعلامتهم، وهي بياض وجوه المؤمنين، وسواد وجوه الكافرين، لرؤيتهم لهم، إذ موضعهم عال. {لَمْ يَدْخُلُوها} أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها الجنة. {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} في دخولها. {صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ} حوّلت أبصار أهل الأعراف. {تِلْقاءَ} جهة.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى وعيد الكفار وثواب أهل الطاعة والإيمان، أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين، بعد استقرار كل فريق في موضعه من النار أو الجنة.
وهذه المناظرة تشعر بأن أهل الجنة يشرفون من علو على أهل النار، وأن بعضهم يخاطب بعضا ليزداد أهل الجنة معرفة بمقدار النعمة، ويزداد أهل النار حسرة على ما فرطوا في الدنيا.
ومع أن الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرضين، فيمكن حصول هذا النداء مع هذا البعد الشديد، لأن لعالم الآخرة أحوالا تختلف عن عالم الدنيا، فيستطيع الإنسان أن يسمع ويرى من بعيد، ولأن البعد والقرب ليس من موانع الإدراك، كما قال الرازي.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى بما يخاطب به أهل النار تقريعا وتوبيخا، وأن هذا النداء:
{وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النّارِ} إنما يحصل بعد استقرار الفريقين في
الجنة والنار، بدليل ما ذكر في الآية المتقدمة من قوله تعالى:{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها} .
وقوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النّارِ} يفيد العموم، فهل النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار، أو من البعض للبعض؟ الجواب أن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا.
والمعنى: إن أصحاب الجنة بعد استقرارهم فيها ينادون أهل النار بعد استقرارهم فيها أيضا، قائلين: قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة الرسل من النعيم والتكريم حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من الخزي والنكال حقّا؟ والسؤال يتضمن تقرير أهل الجنة بصدق ما بلّغهم الرسل من وعد ربهم، وتقريع وتوبيخ أهل النار على ما حدث منهم من جناية على أنفسهم بتكذيب الرسل. {قالُوا: نَعَمْ} قال سيبويه: «نعم: عدة أو تصديق» والمعنى أنهم أجابوا بالإيجاب، فإنا وجدنا ما وعدنا به ربنا على الكفر، وها نحن نتلظى في عذاب النار. وهذا يدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة، بأن وعد الله ووعيده حق وصدق.
وهذا التقريع من الله يعقبه تقريع من الملائكة يقولون لهم: {هذِهِ النّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور 14/ 52 - 16].
وقد قرّع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا قتلى القليب (البئر) من الكفار يوم بدر فنادى: «يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة -وسمى رؤوسهم-هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» وقال عمر: يا رسول الله، تخاطب قوما قد جيفوا، فقال: «والذي نفسي
بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا».
وكانت نتيجة الحوار أو المناظرة أن أذن مؤذن، أي أعلم معلم ونادى مناد:
أن لعنة الله على الظالمين، أي لعنة الله (الطرد من رحمته) مستقرة عليهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بعدم الإيمان. والمؤذن: إما مالك خازن النار، وإما ملك غيره.
ثم وصف الظالمين بقوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ..} . أي الذين يمنعون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويطلبون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد.
{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ} أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي جاحدون مكذبون بذلك، لا يصدقونه ولا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يخافون حسابا عليه ولا عقابا، فهم شر الناس أقوالا وأعمالا.
وبين الفريقين: أهل الجنة وأهل النار حجاب أي حاجز مانع من وصول أهل النار، وهو السور الذي قال الله تعالى فيه:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ، لَهُ بابٌ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} [الحديد 13/ 57].
وأعالي السور هي الأعراف التي قال الله تعالى فيها: {وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ.} . أي على أعالي ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار، ويعرفون كلا منهم بعلامتهم من بياض وجوه المؤمنين وسواد وجوه الكافرين، كما وصفهم الله بها في قوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس 38/ 80 - 42].
وأهل الأعراف: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم موحدون قصرت
بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم النار، وقفوا هناك حتى يقضى الله فيهم.
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته فقال: «أولئك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون» .
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري والبيهقي وغيرهما عن حذيفة قال:
«هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس، فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم ربك فقال لهم:
اذهبوا فادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم».
{وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ..} . أي ونادى أصحاب الأعراف أهل الجنة قائلين لهم: سلام عليكم، وهو تحية خالصة بعد دخول الجنة؛ لقوله تعالى:
{لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلاّ قِيلاً: سَلاماً سَلاماً} [الواقعة 25/ 56 - 26].
نادوهم مسلّمين عليهم، حال كونهم لم يدخلوا الجنة، ولكنهم يطمعون في دخولها، لما بدا لهم من يسر الحساب، ولعلهم بسعة رحمة الله وفضله. تلا الحسن البصري هذه الآية:{لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ} فقال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم. والناس في ذلك الموقف يكونون بين الرجاء والخوف، روى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
لو نادى مناد: يا أهل الموقف، ادخلوا النار إلا رجلا واحدا، لرجوت أن أكون ذلك الرجل، ولو نادى: ادخلوا الجنة إلا رجلا واحدا، لخشيت أن أكون ذلك الرجل.
وإذا حولت أبصار أهل الأعراف نحو أهل النار من غير قصد، فرأوا وجوههم مسودة، وأعينهم مزرقة، قالوا متضرعين إلى الله تعالى: ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين أنفسهم.