الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكرخ
الكرخ كلمة أرامية الأصل مشتقة من "كركة" الأرمنية ومعناها "المدينة" أو (المدينة الحصينة) ولكنها أطلقت على عدة مدن فى مختلف العصور الإسلامية، وكانت موجودة فى مناطق ذات ثقافة آرامية قبل الفتح الإسلامى، وتتميز كل بلد منها عن الأخرى بإضافة أسمها إليها كقولهم "كرخ" بغداد وكرخ سامراء (انظر المشترك لياقوت 368، 370 المعجم جـ 4 ص 254 - 257).
أما فى بغداد فكانت تشير إلى ناحية معينة هى المعروفة بباب الكرخ، ثم عممت فأطلقت على الجانب، الغربى بأكمله وهو الواقع حول ما يعرف بالمدينة المدورة: مدينة الخليفة المنصور مؤسس بغداد (انظر الإصطخرى 84، وإبن حوقل طبعة كرايمرز (241 - 242) وإذا رجعنا إلى اليعقوبى الذى يصور لنا أحوال القرن الثانى للهجرة (الثامن الميلادى) فإن حدود الكرخ فى الطول كانت قصر وضاح من الناحية الشمالية وسوق الثلاث من الجنوب، أما حدودها من ناحية العرض فكانت أرض الربيع (غربًا) ودجلة (راجع البلدان 246 وبغداد، والخرائط الواردة فى بغداد للمسترانج رقم 3، 4، 7).
ويستدل من الاسم الآرامى أن منطقة الكرخ كانت موجودة حتى قبل تأسيس المنصور لبغداد سنة 145 هـ (= 764 م) ولكن على هيئة كورة مستقلة يقال إنها من إنشاء شاهبور الثانى الساسانى (309 - 379 م)، وليس من شك فى أن شأنها كان شأن المحلات الصغيرة التى كانت موجودة فى البقعة التى صارت فى المستقبل عاصمة الخلفاء حيث كان أغلب سكانها من الآراميين المسيحيين.
وكان السوق القديم للشطر الغربى (الذى عرف بسوق بغداد) يقع فى الكرخ، وهناك كثير من الأدلة التى تحمل على الاعتقاد أن أسواق الكرخ إستمرت تؤدى خدماتها لسكان تلك الناحية الكثيرين وذلك حين بنيت المدينة
المدوَّرة (انظر الطبرى تاريخ الرسل والملوك جـ 2 ص 910، 914) واعتزم المنصور قرب نهاية عهده أن يطوّر المناطق التجارية الواقعة جنوبى المدينة المدوَّرة وأن ينقل بعضًا من الأسواق التى كانت موجودة هناك، ومن أجل تحقيق هذه النية ساعدت الدولة بأموالها المقاولين المختلفين تدفعها ليبنوا محلاتهم فى الكرخ، كما قامت الحكومة من جانبها بتوسيع شبكة أعمال الطرق والمسالك المؤدية إلى داخل المنطقة أو الخارجة منها (راجع الخطيب البغدادى "طبعة القاهرة" جـ 1 ص 79 - 82، تاريخ الطبرى جـ 3 ص 323 - 324، ومعجم البلدان لليعقوبى 241).
وكانت أرض الكرخ تُرْوى بالمياه التى يمدها بها نهر عيسى الذى يعتبر رافدًا كبيرًا للفرات حيث يقع فى أقصى شماله وعلى فرعيه "الصرات" و"الكرخايه" التى تعرف أيضًا باسم قناة الكرخية التى تخرج من نهر عيسى أسفل بلدة المحول الصغيرة الواقعة على مقربة من قرية "البراثا"(انظر ياقوت معجم البلدان جـ 1 ص 665) والتى تمدّ الجزء الجنوبى من النصف الغربى من بغداد أعنى بذلك الحى التجارى وما حوله بما يحتاجه من الماء الوارد إلى هناك من القنوات المائية التى تجرى تحت الأرض فى بعض النواحى، ومن فوقها كثير من الجسور المزدحمة بحركة المرور، أما فيما يتعلق "بالكرخاية" ونظام قنواتها فراجع ما كتبه لى سترانج فى جريدة الجمعية الملكية الآسيوية لسنة 1895/ ص 17 - 26، 286، 288، 292 - 293. والعجائب لسهراب، والخطيب البغدادى جـ 1 ص 79 - 82 وياقوت: المعجم جـ 2 ص 252، ولى سترانج بغداد 52 - 56، 63 - 80، ويرجع الفضل فى ازدهار منطقة الكرخ تجاريا إلى هذه الشبكة المتعددة الفروع من القنوات التى كان أهمها قناة الصرات التى تمتاز بسعتها سعة كبيرة تسمح بمرور القوارب الكبيرة بها والتى تربط الفرات بدجلة أكبر أنهار العراق.
أما الضاحية التى كان مسجدها الخاص هو مسجد الجمعة فكان لها كيانها الخاص، ولدينا أوصاف مفصلة
لشتى نواحى الكرخ خلَّفها لنا الخطيب البغدادى واليعقوبى وابن الفقيه ومخطوطة المشهد التى لم تطبع بعد، على أن أعظم عرض لهذا الجانب إنما هو لسهراب فى كتاب العجائب الذى جمع فيه كل القنوات والمجارى المائية.
وكان الشيعة يؤلفون الغالبية العظمى من سكان الكرخ، فلما كان مطلع القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى) كثرت المناوشات بين الشيعة والسنة لاسيما فى المنطقة الممتدة من الأحياء المجاورة لباب البصرة وباب المحوّل، وكان الخراب والدمار اللذان ألَمّا بالناحية شديدين شدة مفزعة وذلك خلال فترة تدهور سلطان البويهيين وزمن السلاجقة الذين جاءوا بعدهم ولم تجد الحكومة عندها ميلا لفتح الأسواق كما لم تتوفر عندها الأموال اللازمة لذلك.
ولقد زادت الصراعات والمصادمات حدة بين شيعة العاصمة وأهل السنة زمن البويهيين أصحاب الميول العلوية ثم تفاقم خطر هذه الصراعات فتحول إلى قتال دموى فى الشوارع بين الطائفتين المتنازعتين وأصبح ذلك أمرا مألوفا غير مستغرب عند أحد، وصار القتل سمة تتسم بها الحياة اليومية هناك، مع ما يصحب ذلك من النهب والسلب والحريق، وكانت الكرخ فى بؤرة هذا النضال الشديد ولا ترى سكانها إلا وهم مشرعون خناجرهم ضد السنة من أهل الأحياء المجاورة (مثل باب البصرة وغيره) حتى أن جلال الدولة (416 - 435 هـ = 1024 - 1044 م) الذى بلغ الوضع فى أيامه ذروة الخطورة اضطر فى إحدى المرات (فى سنة 422 هـ = 1031 م) للفرار إلى الكرخ مع رفاق له من الشيعة، ثم إنه فى سنة 445 هـ = 1053 م) أدت هذه الفتن إلى تحويل جزء كبير من الكرخ إلى هشيم كما حدث من قبل زمن الخليفة الواثق (227 - 233 هـ = 842 - 847 م) حيث شب حريق هائل بالكرخ دمرّها وخرب عامرها فصارت يبابًا، لكن سرعان ما أمكن التغلب على آثار هذا الدمار، وقد لاحظ الخطيب البغدادى (وهو من أهل القرن الخامس الهجرى/ الحادى عشر الميلادى) أن معظم قنوات الرى فى
يومه قد طغى عليها الطمى وطُمست معالمها، ولقد تضاءلت هذه الضاحية فى العصر الحديث حتى صارت ضاحية جدباء غامرة على شاطئ النهر بعد أن كانت فى يوم من الأيام السالفة منطقة كبيرة عامرة.
على أنه بمرور السنين ازدحمت الكرخ بكثير من المساجد والمزارات واتسعت رقعتها حتى أصبحت تشمل كل النصف الجنوبى الواقع غربى نهر دجلة، وكان من أشهر مزاراتها مزار شيخها وابن محلتها معروف القيزران الكرخى المتوفى سنة 200 هـ (= 816 م) كما يوجد بها قبر يزعمون أنه قبر زبيدة زوجة هارون الرشيد ولا يبعد عن سابقه أكثر من ثلاثمائة ياردة وهو إلى الجنوب منه، ولقد جدّد القبرَ والضريحَ الخليفةُ الناصر (575 - 622 هـ/ 1180 - 1225) ثم كثرت عمليات الترميم فيهما منذ ذلك الحين.
وكان قبر الكرخى منذ مطلع القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) واحدا من أشهر أماكن الحج فى بغداد وهو يقع وسط جبانة رائعة كما كان الشأن زمن بنى العباس، أما فيما يتعلق بالقبر الذى يقال له قبر زبيدة (راجع لى سترانج وماسينون وهيرتسفلد، وأما عن غير هذين من المشاهد الموجودة فى الجانب الغربى من بغداد فانظر ماسينون، شرحه 64 وما بعدها، 94 وما بعدها).
لم تكن الكرخ أكبر أحياء النصف الغربى من بغداد فقط بل كانت أيضا أطولها حياة. وذلك أنه لما أخذ الخراب يعم كافة النواحى يوما بعد يوم بقيت الكرخ وحدها بمعزل عن ذلك الدمار، بل أنها حتى زمن ياقوت (بدءًا من القرن السابع الهجرى = الثالث عشر الميلادى)، كانت أشبه ما تكون ببلدة قائمة بذاتها مثل ما كانت عليه فى السنوات الأولى التالية لبناء بغداد، وكانت على بعد ميل تقريبًا من منطقة باب البصرة التى كانت لا تزال آهلة بالسكان (وهذه المنطقة الأخيرة أعنى منطقة باب البصرة تقع فى الجنوب الشرقى من مدينة المنصور القديمة المعروفة بالمدينة المدوَّرة) ولما تقدمت السنون وجاءت العصور الوسطى
المتأخرة أصبح من النادر إطلاق اسم "حىّ باب البصرة" على جميع أحياء بغداد الغربية (نستفيد هذا -على سبيل المثال- مما ذكره ابن بطوطة -وهو من رجال القرن الثامن الهجرى الرابع عشر الميلادى)، على أنه يجب ملاحظة أن طبوغرافية الكرخ وما جاورها كما هى واردة فى ياقوت ليست مطابقة تمام المطابقة لوصفها الوارد فى غيره من المصادر، ويبدو أن معلومات صاحب معجم البلدان فى الوقت الذى ألف فيه معجمه الجغرافى لم تكن من المعلومات التى يمكن الاعتماد عليها، فقد زال كثير من المواضع ولم يبق من معالمها أثر يدل عليها، وقد استمر هذا الوضع فى العصور الحديثة بالكرخ التى لم يبق منها سوى قليل من كرخ العصور الوسطى.
وهناك كرخ أخرى هامة هى المعروفة بكرخ سامرا نسبة إلى مدينة سامراء (أو سر من رأى) وهى التى صارت العاصمة الثانية بعد بغداد والتى شيدها الخليفة المعتصم سنة 836 م على بعد ستين ميلا تقريبًا من عاصمة المنصور، وإذا كانت قد عرفت بكرخ "سامرا" فإنها عرفت أيضًا بكرخ جُدّان (انظر: ياقوت الحموى معجم البلدان، جـ 4 ص 255 - 256) التى هى أقدم من سامرا وهى لا تبعد عن منطقة القصر كثيرا، غير أنه لما أخذت المدينة فى الاتساع نحو المتوكلية امتدت ما يقرب من عشرين ميلا على طول جبهة النهر، وأصبحت كرخ سامراء معسكرًا حربيا ليس فيه سوى غلمان الخليفة الأتراك بقيادة أشناس (انظر البلدان لليعقوبى 258 - 259 والمعجم لياقوت جـ 4 ص - 256) وصارت كرخ سامراء بذلك تختلف عن الكرخ الأصلية وعن بغداد ذاتها التى كانت بأكملها ناحية تجارية خالية تماما من أى أثر للجند، وزيادة على ذلك فإن الجند الأتراك كانوا يعيشون بمعزل تماما عن الأهالى ولم يكونوا أحرارا فى الزواج بمن يريدون ولكنهم يتزوجون اللائى يُخْتَرْن لهم، كما لم يكن يسمح بوجود