الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقا، ينافي مهما تكلفوا في التأويل - التأدب مع القرآن ولو من الناحية اللفظية على الأقل، الذي يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (1).
فليتأمل المؤمن الذي عافاه الله تعالى مما ابتلى به هؤلاء المتعصبة، من هو المؤمن حقا عند الله تعالى، ومن هو المؤمن حقا عند هؤلاء؟. (2)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله في معرض كلامه على أحاديث القبضتين: إن كثيرا من الناس يتوهمون أن هذه الأحاديث -ونحوها أحاديث كثيرة- تفيد أن الإنسان مجبور على أعماله الاختيارية، ما دام أنه حكم عليه منذ القديم وقبل أن يخلق: بالجنة والنار.
وقد يتوهم آخرون أن الأمر فوضى أو حظ، فمن وقع في القبضة اليمنى، كان من أهل السعادة، ومن كان من القبضة الأخرى، كان من أهل الشقاوة.
فيجب أن يعلم هؤلاء جميعا أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3)، لا في
(1) الأنفال الآيات (2 - 4).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية (57 - 58).
(3)
الشورى الآية (11).
ذاته، ولا في صفاته، فإذا قبض قبضة، فهي بعلمه وعدله وحكمته، فهو تعالى قبض باليمنى على من علم أنه سيطيعه حين يؤمر بطاعته، وقبض بالأخرى على من سبق في علمه تعالى أنه سيعصيه حين يؤمر بطاعته، ويستحيل على عدل الله تعالى أن يقبض باليمنى على من هو مستحق أن يكون من أهل القبضة الأخرى، والعكس بالعكس، كيف والله عز وجل يقول:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} (1)؟!
ثم إن كلا من القبضتين ليس فيها إجبار لأصحابهما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار، بل هو حكم من الله تبارك وتعالى عليهم بما سيصدر منهم، من إيمان يستلزم الجنة، أو كفر يقتضي النار والعياذ بالله تعالى منها، وكل من الإيمان أو الكفر أمران اختياريان، لا يكره الله تبارك وتعالى أحدا من خلقه على واحد منهما، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (2)، وهذا مشاهد معلوم بالضرورة، ولولا ذلك، لكان الثواب والعقاب عبثا، والله منزه عن ذلك.
ومن المؤسف حقا أن نسمع من كثير من الناس -حتى من بعض المشايخ- التصريح بأن الإنسان مجبور لا إرادة له! وبذلك يلزمون أنفسهم القول بأن الله يجوز له أن يظلم الناس! مع تصريحه تعالى بأنه لا يظلمهم مثقال ذرة، وإعلانه بأنه قادر على الظلم، ولكنه نزه نفسه عنه، كما في
(1) القلم الآيتان (35و36).
(2)
الكهف الآية (29).
الحديث القدسي المشهور: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي
…
» (1).
وإذا جوبهوا بهذه الحقيقة، بادروا إلى الاحتجاج بقوله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (2)، مصرين بذلك على أن الله تعالى قد يظلم، ولكنه لا يسأل عن ذلك! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا!
وفاتهم أن الآية حجة عليهم، لأن المراد بها -كما حققه العلامة ابن القيم في 'شفاء العليل' وغيره- أن الله تعالى لحكمته وعدله في حكمه ليس لأحد أن يسأله عما يفعل، لأن كل أحكامه تعالى عدل واضح، فلا داعي للسؤال.
وللشيخ يوسف الدجوي رسالة مفيدة في تفسير هذه الآية، لعله أخذ مادتها من كتاب ابن القيم المشار إليه آنفا، فليراجع.
هذه كلمة سريعة حول الأحاديث المتقدمة، حاولنا فيها إزالة شبهة بعض الناس حولها، فإن وفقت لذلك، فبها ونعمت، وإلا فإني أحيل القارئ إلى المطولات في هذا البحث الخطير، مثل كتاب ابن القيم السابق، وكتب شيخه ابن تيمية الشاملة لمواضيع هامة هذا أحدها. (3)
- وقال رحمه الله تعالى تعقيبا على حديث: «لن يدخل أحدا منكم
(1) أحمد (5/ 160) ومسلم (4/ 1994 - 1995/ 2577) والترمذي (4/ 566 - 567/ 2495) وقال: "حديث حسن". وابن ماجه (2/ 1422/4257) عن أبي ذر.
(2)
الأنبياء الآية (23).
(3)
الصحيحة (1/ 115 - 117/ 46 - 50).
عمله الجنة» (1): واعلم أن هذا الحديث قد يشكل على بعض الناس، ويتوهم أنه مخالف لقوله تعالى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} (2) ونحوها من الآيات والأحاديث الدالة على أن دخول الجنة بالعمل، وقد أجيب بأجوبة، أقربها إلى الصواب: أن الباء في قوله في الحديث: "بعمله" هي باء الثمنية، والباء في الآية باء السببية، أي أن العمل الصالح سبب لا بد منه لدخول الجنة، ولكنه ليس ثمنا لدخول الجنة، وما فيها من النعيم المقيم والدرجات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بعض فتاويه: "ولهذا قال بعضهم: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون سببا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات، بل لا بد من ريح مربية بإذن الله، ولا بد من صرف الانتفاء عنه، فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره. وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج، بل كم ممن أنزل ولم يولد له، بل لا بد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع.
وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة، بل هي
(1) أحمد (2/ 264) والبخاري (11/ 355/6463) ومسلم (4/ 2170/2816 (75)) وابن ماجه (2/ 1405/4201) عن أبي هريرة. وفي الباب عن عائشة وجابر وأبي سعيد وغيرهم.
(2)
الزخرف الآية (72).
سبب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(فذكر الحديث)، وقد قال تعالى:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} (1). فهذه باء السبب، أي بسبب أعمالكم، والذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم باء المقابلة، كما يقال: اشتريت هذا بهذا. أي ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة، بل لا بد من عفو الله وفضله ورحمته، فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف الدرجات.
وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس:
فريق آمنوا بالقدر وظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود فأعرضوا عن الأسباب الشرعية والأعمال الصالحة. وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه.
وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله كما يطلبه الأجير من المستأجر، متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم، وكما يطلبه المماليك، وهؤلاء جهال ضلال: فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم. وهو سبحانه كما قال:«يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» (2). فالملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم، وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم فيطالبون بجزاء ذلك، والله تعالى غني عن
(1) النحل الآية (32).
(2)
هذا جزء من حديث أبي ذر، وقد تقدم قريبا.
العالمين، فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤا فلها. لهم ما كسبوا، وعليهم ما اكتسبوا، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} (1).
انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله منقولا من 'مجموعة الفتاوى' (2)، ومثله في 'مفتاح دار السعادة' (3) لتلميذه المحقق العلامة ابن قيم الجوزية، و'تجريد التوحيد المفيد' (4) للمقريزي. (5)
- وقال رحمه الله تعالى تعقيبا على الحديث القدسي: «قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم
…
» الحديث (6): قوله: (قد أردت منك) أي: أحببت منك.
والإرادة في الشرع تطلق ويراد بها ما يعم الخير والشر والهدى والضلال، كما في قوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (7)، وهذه الإرادة لا تتخلف.
(1) فصلت الآية (46).
(2)
(8/ 70 - 71).
(3)
(ص.9 - 10).
(4)
(ص.36 - 43)
(5)
الصحيحة (6/ 198 - 200/ 2602).
(6)
أحمد (3/ 127) والبخاري (11/ 507 - 508/ 6557) ومسلم (4/ 2160 - 2161/ 2805) عن أنس.
(7)
الأنعام الآية (125).
وتطلق أحيانا ويراد بها ما يرادف الحب والرضى، كما في قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1). وهذا المعنى هو المراد من قوله تعالى في هذا الحديث: "أردت منك"، أي: أحببت. والإرادة بهذا المعنى قد تتخلف، لأن الله تبارك وتعالى لا يجبر أحدا على طاعته، وإن كان خلقهم من أجلها، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (2)، وعليه، فقد يريد الله تبارك وتعالى من عبده ما لا يحبه منه، ويحب منه ما لا يريده. وهذه الإرادة يسميها ابن القيم رحمه الله تعالى بالإرادة الكونية، أخذا من قوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} (3)، ويسمي الإرادة الأخرى المرادفة للرضى بالإرادة الشرعية.
وهذا التقسيم، مَن فَهمه، انحلت له كثير من مشكلات مسألة القضاء والقدر، ونجا من فتنة القول بالجبر أو الاعتزال، وتفصيل ذلك في الكتاب الجليل 'شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل' لابن القيم رحمه الله تعالى.
قوله: «وأنت في صلب آدم» ، قال القاضي عياض: "يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (4)، فهذا
(1) البقرة الآية (185).
(2)
الكهف الآية (29).
(3)
يس الآية (82).
(4)
الأعراف الآية (172).
الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا، فهو مؤمن، ومن لم يوف به، فهو كافر، فمراد الحديث: أردت منك حين أخذت الميثاق، فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك. ذكره في 'الفتح'. (1)
ابن عثيمين (2)(1421 هـ)
الشيخ الفاضل، الإمام الفقيه أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي. ولد الشيخ في مدينة عنيزة سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وألف في أسرة يعرف عنها الدين والاستقامة.
واستفاد في طلبه للعلم من عدة مشايخ بعضهم في عنيزة وبعضهم في الرياض منهم: الشيخ عبد الرحمن السعدي، أخذ عنه ولازمه قرابة إحدى عشرة سنة، ويعتبر الشيخ من أبرز طلابه، والشيخ عبد العزيز بن باز، قرأ عليه من صحيح البخاري وبعض كتب الفقه، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب التفسير المشهور، درس عليه الشيخ في المعهد العلمي في الرياض، والشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع، قرأ عليه مختصر العقيدة الواسطية ومنهاج السالكين كلاهما للشيخ عبد الرحمن السعدي والآجرومية والألفية في النحو والصرف، والشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان، قرأ عليه بعض كتب الفقه ودرس عليه الفرائض. لم يرحل الشيخ لطلب العلم إلا إلى الرياض، حيث فتحت المعاهد العلمية فالتحق بها، وبعد وفاة شيخه عبد الرحمن السعدي
(1) الصحيحة (1/ 333 - 334/ 172).
(2)
'ابن عثيمين الإمام الزاهد' للدكتور ناصر الزهراني.
رشح لإمامة الجامع الكبير والتدريس فيه والإفتاء، وقد عرض عليه تولي القضاء بالمحكمة الشرعية بالأحساء، لكن طلب الإعفاء منه. أما مؤلفاته فكثيرة جدا منها فتح رب البرية بتلخيص الحموية، وشرح الواسطية لابن تيمية، والشرح الممتع على زاد المستقنع، ولمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، والقواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى والقول المفيد شرح كتاب التوحيد وغيرها. للشيخ من الأولاد الذكور: عبد الله وعبد الرحمن وإبراهيم وعبد العزيز وعبد الرحيم وله من الإخوة: الدكتور عبد الله رئيس قسم التاريخ في جامعة الملك سعود وعبد الرحمن.
كان رحمه الله زاهدا ورعا متواضعا، مشهودا له بمواقف الخير والجهاد في سبيل الله والدعوة إليه.
قال عنه سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ: والشيخ محمد لا تخفى على الجميع مكانته وآثاره العلمية من خلال التأليف والفتاوى والمحاضرات والدروس والمقالات ومن خلال الأشرطة التي تحمل في طياتها كل خير، ومن حيث اعتداله وبعده عن الإفراط والتفريط وكونه في أموره على طريق مستقيم، ولكم ربى من طلاب وكم شرح من كتاب واستفاد منه المستفيدون، فنسأل الله أن يجازيه عنا وعن الإسلام خير الجزاء.
وقال عنه الشيخ صالح بن حميد: لقد كان رحمه الله لسان صدق صادعا بالحق ملتزما به، مقيما عليه، مع رعاية الحكمة، في حديثه ألفة، وفي ابتسامته مودة وفي كلامه بيان.
توفي رحمه الله بجدة يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال سنة