الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توفي رحمه الله مساء يوم الجمعة الثاني عشر من صفر سنة خمس وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة، وكان عمره حين وفاته ثمانا وثلاثين سنة.
موقفه من المبتدعة:
له رحمه الله رسالة وافية وفية، حوت درراً من الفوائد السّنيّة أسماها: 'ضرورة الاهتمام بالسنن النبويّة'. حرص رحمه الله أن يجلي فيها معنى السنة وبيان أهميتها وفضل متبعها.
- قال رحمه الله في مقدمتها: فإن أحق ما اعتنى به المسلم، وأولى ما صرف فيه أوقاته: العمل الدؤوب على اقتفاء آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وتجسيدها في حياته اليومية، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ذلك بأن غاية المؤمن تحصيل الهداية الموصلة إلى دار السعادة، وقد قال تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (1) وقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (2) وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (3). وهذه الآية -كما قال ابن كثير-: (أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، في أقواله، وأفعاله، وأحواله).
وهذه الأسوة إنما يسلكها ويوفق لها من كان يرجو الله واليوم الآخر.
(1) النور الآية (54).
(2)
الأعراف الآية (158).
(3)
الأحزاب الآية (21).
فإن ما معه من الإيمان، وخوف الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثّه على التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وشرف المؤمن ومنزلته إنما تقاس باتباعه، فكلما كان تحرّيه للسنة أكثر كان بالدرجات العلى أحقّ وأجدر.
ولذا كان العلماء السابقون من السلف الصالح يجعلون معيار من يؤخذ عنه العلم -وهو أشرف مأخوذ- تمسّكه بالسنة، كما قال إبراهيم النخعي رحمه الله:(كانوا إذا أتوا الرجل يأخذون عنه العلم نظروا إلى صلاته، وإلى سنته، وإلى هيئته؛ ثم يأخذون عنه).
وقال أبو العالية: (كنا نأتي الرجل لنأخذ عنه فننظر إذا صلى: فإن أحسنها جلسنا إليه، وقلنا: هو لغيرها أحسن؛ وإن أساءها قمنا عنه، وقلنا: هو لغيرها أسوأ). (1)
- وقال: فلو أن كل فرد من أبناء هذه الأمة نشأ وبين عينيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذ منها آدابه وأخلاقه، وحركته وسكونه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لنشأ جيل إيمانه كالجبال، يقذف الرعب في قلوب أعدائنا على مسيرة شهر، وينهض بالأمة إلى أعلى ما تصبو إليه من السعادة والسيادة {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (2). هذا وللالتزام بالسنة ثمار وفوائد لا تحصى. (3)
(1) ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية (ص.11 - 13).
(2)
الحج الآية (40).
(3)
ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية (ص.45).
ثم ذكرها مفصلة.
- وقال: فالله الله يا أمة الإسلام في سنن رسولكم صلى الله عليه وسلم، من لها سواكم؟ أحيوها جهدكم، وأرشدوا الناس إلى العمل بها، فهي عنوان المحبة الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلامة المتابعة الصادقة له صلى الله عليه وسلم.
ولا يجرمنّكم شنآن المتعصبين، ولا تهويل المبطلين، ولا حيصة العوامّ المفتونين، فإن السنة اليوم غريبة، معاول الهدم تخدشها من كل جانب، فهي اليوم في أشد الحاجة إلى أبنائها المخلصين، الذين يتحملون في سبيلها المشاقّ، ويؤثرونها على حظوظ أنفسهم، قائدهم في ذلك الرفق واللين، والمجادلة بالتي هي أحسن، وسيكون التوفيق حليفهم، والعاقبة الحسنى لهم، متى ما أخلصوا النية لله عز وجل، واحتسبوا منه وحده الثواب على هذا العمل الجسيم.
وما أحوجنا هنا أن نذكّرهم بتلك التجربة التي جرت على يد الإمام الشاطبي رحمه الله عندما عقد العزم على إحياء السنة والتجرد لها وإن خالفها الناس، فتعرض بسبب ذلك لمقت الناس، وإزرائهم به، واتهامه بكل سوء، ولكن العاقبة للمتقين:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} .
قال الشاطبي في الاعتصام: (
…
فتردّد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس؛ فلا بد من حصول نحوٍ مما حصل لمخالفي العوائد -لاسيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها- إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل. وبين أن أتّبعهم على شرط
مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضُّلاّل -عائذاً بالله من ذلك- إلا أني أوافق المعتاد، وأُعَدّ من المؤالفين لا من المخالفين.
فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً). (1)
وله أيضاً رسالة أخرى عنون لها 'الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية'. وهي ماتعة في بابها. قال فيها: وليعتبر المسلم بما قاله تعالى في حقّ النصارى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} (2)، والمعنى: أنم ابتدعوا لأنفسهم عبادة، ما كتبها الله عليهم ولا فرضها، بل هم الذين التزموها من عند أنفسهم، وقصدهم بذلك: تحصيل رضا الله سبحانه.
فانظر كيف مقتهم الله وذمّهم مع حسن قصدهم فيما التزموه من العبادة المحدثة. فإن الله تعالى لا يريد من عباده أن يعبدوه إلا بما شرع على ألسنة رسله، وبذلك يظهر صدق المستجيبين لله وللرسول إذا دعاهم لما
(1) ضرورة الاهتمام بالكتاب والسنة (ص.86 - 88).
(2)
الحديد الآية (27).
يحييهم.
فكما أن الله تعالى لا يقبل من مشرك في توحيد الإلهية عملاً مهما كبر، فكذلك لا يقبل ممن أشرك في توحيد المتابعة عملاً مهما كثر. قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِن اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} (1).
فليس لأحد أن يتبع ما يحبّه، فيأمر به، ويتخذه ديناً، وينهى عما يبغضه، ويذمه، ويتخذ ذلك ديناً: إلا بهدىً من الله، وهدى الله هو شريعته التي بعث بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن اتبع ما يهواه حبّاً وبغضاً بغير الشريعة؛ فقد اتبع هواه بغير هدىً من الله.
وأيّ اتباع للهوى أعظم من الإعراض عمّا شرع الله تعالى من الوسائل الشرعية في الدعوة إلى الوسائل البدعيّة، التي يظنّها الفاعل لها قربة وطاعة لله تعالى، وهي -والله- عين الضلال ومنبع الفساد. وصدق الله تعالى إذ يقول:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} (2).اهـ (3)
(1) القصص الآية (50).
(2)
الزخرف الآيتان (36 - 37).
(3)
الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية (ص.88 - 89).