الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبها نشرنا العلم في أرجائها
…
حتى تعالى كالجبال رصِينا
واليومَ لمّا للكتاب نبذتُمُ
…
صار الهوان مخيِّماً كاسِينا
هذا هو السّرّ الوحيد لنقصكم
…
وكمالِ سادة قومنا الماضينا (1)
موقفه من الخوارج:
له كتاب 'الأمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم والتحذير من مفارقتهم'، كما له أيضاً رسالة 'معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة'.
- قال في مقدمتها: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل من أصول العقيدة السلفية، قلّ أن يخلو كتاب فيها من تقريره وشرحه وبيانه، وما ذاك إلا لبالغ أهميته وعظيم شأنه، إذ بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدين والدنيا معاً، وبالافتيات عليهم قولاً أو فعلاً فساد الدين والدنيا.
وقد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة.
يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في الأمراء: (هم يَلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا. والله لما يُصلح الله بهم أكثر مما يُفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وإن فرقتهم لكفر).
(1) القول المبين (ص.71 - 72).
ولقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- يُولون هذا الأمر اهتماماً خاصّاً، لا سيّما عند ظهور بوادر الفتنة؛ نظراً لما يترتب على الجهل به أو إغفاله من الفساد العريض في العباد والبلاد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد.
واهتمام السلف بهذا الأمر تحمله صور كثيرة نُقلت إلينا عنهم، من أبلغها وأجلّها ما قام به الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة رضي الله عنه؛ حيث كان مثالاً للسنة في معاملة الولاة.
فلقد تبنى الولاة في زمنه أحد المذاهب الفكريّة السيئة، وحملوا الناس عليه بالقوة والسيف، وأُهريقت دماء جمّ غفير من العلماء بسبب ذلك، وفُرض القول بخلق القرآن الكريم على الأمة، وقُرّر ذلك في كتاتيب الصبيان
…
إلى غير ذلك من الطاّمّات والعظائم، ومع ذلك كلّه؛ فالإمام أحمد لا ينزعه هوى، ولا تستجيشُه العواطف (العواصف)، بل يثبت على السنة؛ لأنها خير وأهدى؛ فيأمر بطاعة وليّ الأمر، ويجمع العامّة عليه، ويقف كالجبل الشامخ في وجه من أراد مخالفة المنهج النبوي والسّير السّلفيّة انسياقاً وراء العواطف المجرّدة عن قيود الكتاب والسنة، أو المذاهب الثوريّة الفاسدة.
يقول حنبل -رحمه الله تعالى-: (اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله -يعني: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى-، وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا -يعنون: إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك-، ولا نرضى بإمارته، ولا سلطانه. فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، لا تشقّوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا
دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برّ ويُستراح من فاجر. وقال: ليس هذا -يعني: نزع أيديهم من طاعته- صواباً؛ هذا خلاف الآثار).
فهذه صورة من أروع الصور التي نقلها الناقلون، تشرح صراحة التطبيق العمليّ لمذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب.
ومن الصور أيضاً ما جاء في كتاب 'السنة' للإمام الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى حيث قال: (إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان؛ فاعلم أنه صاحب هوى. وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح؛ فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله تعالى).
يقول الفضيل بن عياض: (لو كان لي دعوة ما جعلتها إلاّ في السلطان. فأُمِرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نُؤمر أن ندعو عليهم، وإن جاروا وظلموا؛ لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم وعلى المسلمين، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين).
ومما يجدر العلم به أن قاعدة السلف في هذا الباب زيادة الاعتناء به كلّما ازدادت حاجة الأمة إليه؛ سدّاً لباب الفتن، وإيصاداً لطريق الخروج على الولاة، الذي هو أصل فساد الدنيا والدين. (1)
- وقال: فإن سألت عن الطريقة الشرعية للإنكار على السلاطين، فهي مبسوطة في كتب السنة وغيرها من كتب أهل العلم، وفي مقدَّم الإجابة عن هذا السؤال أمهّد بنقلين، ثم أورد الأدلّة على ما أقرّره، والله الموفق:
(1) معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة (ص.5 - 8).
النقل الأول:
قال ابن مفلح في 'الآداب الشرعية': (ولا ينكر أحد على سلطان إلا وعظاً له وتخويفاً، أو تحذيراً من العاقبة في الدنيا والآخرة؛ فإنه يجب، ويحرم بغير ذلك، ذكره القاضي، وغيره. والمراد: ولم يَخَف منه بالتخويف والتحذير، وإلا سقط، وكان حكم ذلك كغيره.
قال ابن الجوزي: الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين: التعريف والوعظ، فأما تخشين القول؛ نحو: يا ظالم! يا من لا يخاف الله! فإن كان ذلك يحرّك فتنة يتعدّى شررها إلى الغير؛ لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه؛ فهو جائز عند جمهور العلماء. قال: والذي أراه المنع من ذلك
…
) اهـ.
النقل الثاني:
قال ابن النحاس في كتابه 'تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين': (ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رؤوس الأشهاد، بل يودّ لو كلّمه سرّاً، ونصحه خفية؛ من غير ثالث لهما) اهـ.
لقد كان موقف سلفنا الصالح من المنكرات الصادرة من الحكّام وسطاً بين طائفتين:
إحداهما: الخوارج والمعتزلة، الذين يرون الخروج على السلطان إذا فعل منكراً.
والأخرى: الروافض الذين أضفوا على حكّامهم قداسة، حتى بلغوا بهم
مرتبة العصمة.
وكلا الطائفتين بمعزلٍ عن الصواب، وبمنأى عن صريح السنة والكتاب.
ووفق الله أهل السنة والجماعة -أهل الحديث- إلى عين الهدى والحقّ، فذهبوا إلى وجوب إنكار المنكر، لكن بالضوابط الشرعية، التي جاءت بها السنة، وكان عليها سلف هذه الأمة.
ومن أهم ذلك وأعظمه قدراً أن يناصح ولاة الأمر سرّاً فيما صدر عنهم من منكرات، ولا يكون ذلك على رؤوس المنابر وفي مجامع الناس؛ لما ينجم عن ذلك -غالباً- من تأليب العامة، وإثارة الرّعاع عليهم، وإشعال الفتن.
وهذا ليس دأب أهل السنة والجماعة، بل سبيلهم ومنهجهم: جمع قلوب الناس على ولاتهم، والعمل على نشر المحبّة بين الراعي والرعية، والأمر بالصبر على ما يصدر عن الولاة من استئثار بالمال أو ظلم للعباد مع قيامهم بمناصحة الولاة سرّاً، والتحذير من المنكرات عموماً أمام الناس؛ دون تخصيص فاعل؛ كالتحذير من الزنى عموماً، ومن الربا عموماً، ومن الظلم عموماً
…
ونحو ذلك.
يقول العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى-: (ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الانقلابات، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخروج الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتّبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم
وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتّصلون به حتى يوجه إلى الخير.
وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنى وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها؛ لا حاكم ولا غير حاكم.
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان؛ قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه: ألا تنكر على عثمان؛ قال: أُنكر عليه عند الناس؟! لكن أُنكر عليه بيني وبينه، ولا أفتح باب شر على الناس.
ولما فتحوا الشر في زمن عثمان رضي الله عنه، وأنكروا على عثمان جهرة؛ تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي بأسباب ذلك، وقتل جمّ كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً، حتى أبغض الناس ولي أمرهم، وحتى قتلوه؛ نسأل الله العافية) اهـ.
وهذا الذي قرّره الشيخ -حفظه الله- هو امتداد لما قرّره أئمة الدعوة -رحمهم الله تعالى- في كتبهم، وهو في الحقيقة امتداد لما عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سلك مسلكهم من أهل العلم والدين. (1)
- وقال أيضاً: وبهذا يُعلم أن إثارة الرعية على الولاة، وتأليب العامة
(1) معاملة الحكام (ص.41 - 44).
عليهم؛ داء عضال، تجب المبادرة إلى كيّه، وورم خبيث يتعيّن استئصاله، لئلا يستفحل فيخرج خبثه، فتستحكم البليّة، وتعظم الرزيّة، ولا ينفع الندم عندئذ. فإن المثير والمثبط؛ كفأرة السّدّ، إن تركت أغرقت العباد والبلاد، وأشاعت في الأرض الفساد. فيتعين على الناس عموماً: التكاتف لدفع المثير الساعي إلى الفتنة، وعزله كما تعزل الجرباء، ونفيه من المجتمع؛ كلّ حسب جهده وطاقته.
وهذا من أفضل الأعمال وأجلّ القرب إلى الله تعالى، إذ به يندفع شرّ عظيم، وتُطفأ فتنة عمياء. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. والله سبحانه العاصم منها وحده؛ نسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله الحميدة أن يؤمّننا في أوطاننا، ويصلح أئمتنا وولاة أمورنا. (1)
- وله أيضاً تعليق على رسالة 'أصول وضوابط في التكفير' لعبد اللطيف ابن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. قال في مقدمتها: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: هذا خطاب محرّر، كتبه العلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن -رحمه الله تعالى- لردّ فتنة خطيرة، طالما زخرفها الشيطان فتساقط بعض المنتسبين إلى الخير في شَرَكِها، وظنوها حقاً
…
تلك الفتنة هي فتنة التكفير التي ترتبط جذورها بالخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأفسدوا أيّما فساد، مع ما فيهم من طول صلاة وكثرة صيام، حتى إن الأمة في القرون المفضلة تحقر
(1) معاملة الحكام (ص.101).
صلاتها عند صلاتهم، وصيامها عند صيامهم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد سئل نافع: كيف رأي ابن عمر في الحروريّة؟ قال: يراهم شرارَ خلق الله؛ إنهم انطلقوا إلى آيات أُنزلت في الكفّار، فجعلوها على المؤمنين.
فسُرّ سعيد بن جبير من ذلك، فقال: مما يتّبع الحرورية من المتشابه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (1) ويقرنون معها: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} (2) فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحقّ؛ قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربّه، ومن عدل بربّه فقد أشرك؛ فهذه الأمة مشركون، فيخرجون، فيقتلون ما رأيت؛ لأنهم يتأوّلون هذه الآية. اهـ.
فهذا حال المبتدعين لهذه الفتنة المشعلين لنارها، عند السلف الصالح -رضوان الله عليهم أجمعين- من الصحابة والتابعين.
ورسالتنا هذه سوف تعالج هذه الفتنة عن طريق بيان منهج السلف الصالح في قضايا التكفير، فمن سار على نهجهم نجا -إن شاء الله- من مغبّة هذه الفتنة، ومن حاد عنه تخطّفته كلاليبها.
وكان سبب هذه الرسالة أن جماعة من أهل الدين في هذا البلد نزعهم
(1) المائدة الآية (44).
(2)
الأنعام الآية (1).