الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن هذا يسبب نقص الإيمان، أو على الأقل ركوده وعدم نموه.
السبب الثالث: فعل المعصية فإن للمعصية آثاراً عظيمة على القلب وعلى الإيمان ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» . الحديث (1).
السبب الرابع: ترك الطاعة فإن ترك الطاعة سبب لنقص الإيمان، لكن إن كانت الطاعة واجبة وتركها بلا عذر، فهو نقص يلام عليه ويعاقب، وإن كانت الطاعة غير واجبة، أو واجبة لكن تركها بعذر فإنه نقص لا يلام عليه، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم النساء ناقصات عقل ودين، وعلّل نقصان دينها بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم، مع أنها لا تلام على ترك الصلاة والصيام في حال الحيض بل هي مأمورة بذلك لكن لما فاتها الفعل الذي يقوم به الرجل صارت ناقصة عنه من هذا الوجه. (2)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله: القدر بفتح الدال: تقدير الله تعالى للكائنات، حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته.
والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلا، أزلا وأبدا، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله أوبأفعال عباده.
الثاني: الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وفي هذين الأمرين
(1) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(2)
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (1/ 49 - 52).
يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (1). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» (2).
الثالث: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، سواء كانت مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعل المخلوقين، قال الله تعالى فيما يتعلق بفعله:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (3) وقال: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} (4) وقال: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} (5) وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} (6) وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)} (7).
الرابع: الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها، وصفاتها،
(1) الحج الآية (70).
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2044/2653).
(3)
القصص الآية (68).
(4)
إبراهيم الآية (27).
(5)
آل عمران الآية (6).
(6)
النساء الآية (90).
(7)
الأنعام الآية (137).
وحركاتها، قال الله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} (1) وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} (2) وقال عن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (3).
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية وقدرة عليها، لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له.
أما الشرع: فقد قال الله تعالى في المشيئة: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39)} (4) وقال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (5) وقال في القدرة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (6) وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (7).
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع بإرادته كالمشي، وما يقع بغير إرادته كالارتعاش،
(1) الزمر الآية (62).
(2)
الفرقان الآية (2).
(3)
الصافات الآية (96).
(4)
النبأ الآية (39).
(5)
البقرة الآية (223).
(6)
التغابن الآية (16).
(7)
البقرة الآية (286).
لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى، وقدرته لقول الله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (1) ولأن الكون كله ملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته.
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا يمنح العبد حجة على ما ترك من الواجبات أو فعل من المعاصي، وعلى هذا فاحتجاجه به باطل من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} (2) ولوكان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه.
الثاني: قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} (3) ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسل، لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى.
(1) التكوير الآيتان (28و29).
(2)
الأنعام الآية (148).
(3)
النساء الآية (165).
الثالث: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة» . فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: «لا، اعملوا فكل ميسر» ، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} (1) الآية. وفي لفظ لمسلم: «فكل ميسر لما خلق له» (2) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل ونهى عن الاتكال على القدر.
الرابع: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4) ولو كان العبد مجبرا على الفعل لكان مكلفا بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أونسيان، أو إكراه، فلا إثم عليه لأنه معذور.
الخامس: أن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنتفي حجته بالقدر إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
(1) الليل الآية (5).
(2)
تقدم تخريجه في مواقف عبد الرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ).
(3)
التغابن الآية (16).
(4)
البقرة الآية (286).
السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه من أمور دنياه حتى يدركه ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر، فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟ أفليس شأن الأمرين واحدا؟.
وإليك مثالا يوضح ذلك: لو كان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهي به إلى بلد كلها فوضى، وقتل، ونهب، وانتهاك للأعراض وخوف، وجوع، والثاني ينتهي به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟
إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبدا أن يسلك طريق بلد الفوضى، والخوف، ويحتج بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طرق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟
مثال آخر: نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لاتشتهيه، وينهى عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلبا للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أويفعل ما نهى الله ورسوله ثم يحتج بالقدر؟.
السابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي، لو اعتدى عليه شخص فأخذ ماله أو انتهك حرمته ثم احتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإن اعتدائي كان بقدر الله، لم يقبل حجته. فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه
على حق الله تعالى؟
ويذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع إليه سارق استحق القطع، فأمر بقطع يده فقال: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنما سرقت بقدر الله، فقال عمر: ونحن إنما نقطع بقدر الله.
وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:
الأولى: الاعتماد على الله تعالى، عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه لأن كل شيء بقدر الله تعالى.
الثانية: أن لا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده، لأن حصوله نعمة من الله تعالى، بما قدره من أسباب الخير، والنجاح، وإعجابه بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة.
الثالثة: الطمأنينة، والراحة النفسية بما يجري عليه من أقدار الله تعالى فلا يقلق بفوات محبوب، أو حصول مكروه، لأن ذلك بقدر الله الذي له ملك السموات والأرض، وهو كائن لا محالة وفي ذلك يقول الله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} (1) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا
(1) الحديد الآيتان (22و23).
للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (1) رواه مسلم.
وقد ضل في القدر طائفتان:
إحداهما: الجبرية الذين قالوا إن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة.
الثانية: القدرية الذين قالوا إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر.
والرد على الطائفة الأولى (الجبرية) بالشرع والواقع:
أما الشرع: فإن الله تعالى أثبت للعبد إرادة ومشيئة، وأضاف العمل إليه، قال الله تعالى:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} (2) وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (3) الآية. وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} (4).
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الاختيارية التي
(1) أخرجه أحمد (4/ 332) ومسلم (4/ 2295/2999) من حديث صهيب رضي الله عنه.
(2)
آل عمران الآية (152).
(3)
الكهف الآية (29).
(4)
فصلت الآية (46).
يفعلها بإرادته كالأكل، والشرب، والبيع، والشراء، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالارتعاش من الحمى، والسقوط من السطح، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر، وفي الثاني غير مختار ولامريد لما وقع عليه.
والرد على الطائفة الثانية (القدرية) بالشرع والعقل.
أما الشرع: فإن الله تعالى خالق كل شيء، وكل شيء كائن بمشيئته، وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته فقال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} (1) وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} (2).
وأما العقل: فإن الكون كله مملوك لله تعالى، والإنسان من هذا الكون، فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته. (3)
(1) البقرة الآية (253).
(2)
السجدة الآية (13).
(3)
شرح الأصول الثلاثة (مجموع الفتاوى له 6/ 109 - 115).