الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
النوع السابع"
الكلام في المجمل والمبين
وهو مرتب على مقدمة وفصلين.
أما
المقدمة: ففي تفسير المجمل والمبين والبيان:
أما المجمل: فهو اسم المفعول من الإجمال، وهو في اللغة: عبارة عن جعل الشيء جملة واحدة، يقال: أجملت الحساب إذا جمعت المتفرق منه ورددته إلى جملة واحدة.
وقيل: الإجمال: الإبهام، يقال: أجمل الأمر إذا أبهمه.
والأقرب أن المجمل في اصطلاح الأصوليين مأخوذ من هذا.
وقيل: الإجمال التحصيل يقال: أجملت الشيء إذا حصلته، فالمجمل على هذا المحصل.
وأما في الاصطلاح: فقيل: لفظ تمس الحاجة إلى بيانه في حق السامع دون المتكلم.
وهو غير جامع، لأنه يخرج عنه الفعل والإجمال قد يكون فيه كما يكون في الألفاظ على ما ستعرف ذلك.
وغير مانع: لأنه يدخل فيه اللفظ الذي له حقيقة ظاهرة، وأريد منه المجاز المرجوح، فإنه يحتاج إلى البيان في حق السامع مع أنه ليس بمجمل.
وقيل المجمل ما لا يطاق العمل به إلا ببيان يقترنه. وهو أيضا غير مانع لما سبق.
وقيل: هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء.
وهو أيضا غير جامع لما سبق، بل لا يتناول شيئا من المجملات، لأنه ما من مجمل من المشترك، والمتواطئ، وغيرهما من أقسامه، على ما ستعرفه إن شاء الله تعالى، وألا يفهم منه شيء نحو أن يفهم من المشترك انحصار المراد في أحد مفهوماته.
ومن المتواطئ نحو قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} إيجاب الحق على سبيل الإيهام، بحيث يصلح أن يفسر بأي جزء أريد نحو النصف والثلث والربع، وكذا من غيرهما لابد من أن يفهم شيء.
وغير مانع: أيضا لما سبق لا لأنه لا يمنع اللفظ المهمل والممتنع والمستحيل
من الدخول تحته وهي ليست بمجملات، لأنه قد يدفع، بما أن قولنا: لا يفهم منه عند الإطلاق شيء يشعر بأنه عندما لا يكون مطلقا يفهم منه شيء وهي ليست/ (281/ ب) كذلك، ويخص الأخيران بالدفع، بأن المراد من الشيء ما يطلق عليه اسم الشيء، وإن كان على وجه التجوز لا ما حقيقة شيء، وإطلاق الأسماء المجازية ليس بممتنع في الحدود لاسيما الشائع الكثير الاستعمال.
وقال الشيخ الغزالي- رحمه الله تعالى-: المجمل هو اللفظ الصالح لأحد معنيين الذي لا يتعين معناه، لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال.
وهو غير جامع لما سبق، وأيضا فإنه إن عنى بقوله: لأحد معنيين، أحد معنيين مختلفين فغير جامع، من وجه آخر أيضا: لأنه يخرج عنه المتواطئ إذ ليس له معنيان مختلفان، بل معناه واحد والتعدد والاختلاف إنما هو في مجال معناه.
وإن عنى به أحد معنيين سواء كانا مختلفين أو متفقين فغير مانع، لأنه يدخل تحت نحو أعتق رقبة إذ هي صالحة لأحد معنيين متفقين الذي لا يتعين معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال مع أنها ليست مجملة بالاتفاق.
وقال أبو الحسين البصري: المجمل ما أفاد شيئا من جملة أشياء هو متعين في نفسه واللفظ لا بعينه.
ولا يرد عليه قولك: اضرب رجلا، فإنه وإن أفاد شيئا من جملة أشياء لكنه غير متعين في نفسه بل أي رجل ضربه جاز، وليس كذلك لفظ:"القراء"، فإنه يفيد إما الطهر أو الحيض بعينه، ولهذا لا يخرج المكلف عن عمدة التكليف الوارد بلفظه بامتثال أيهما كان، وإنما تخرج عن عهدته بامتثال ما دلت القرينة على تعينه.
واعلم أن هذا التعريف إن كان تعريفا لمطلق المجمل وهو الذي أشعر به كلامه إشعارا ظاهرا، فإنه ذكر في أوله لفظة "ما" وهي عامة التناول فيشمل اللفظ والفعل، كان ينبغي أن لا يذكر في آخر اللفظ "فإن ذلك يشعر بأنه أراد من "ما" اللفظ وحينئذ يكون التعريف غير جامع، لخروج الفعل المجمل عنه، وإن كان تعريفا للمجمل اللفظي فقط، إما لأن الإجمال بالذات للفظ
وبالعرض للفعل إذ الفعل غير موضوع للدلالة على الشيء حتى يتطرق إليه الإجمال والتصريح، أو لأن الغالب إنما هو الإجمال في اللفظ دون الفعل كأن ينبغي أن لا يذكر في أوله ما يتناوله وغيره، بل كان ينبغي أن يصرح بذكر اللفظ دفعا لإيهام التعميم.
هذا مع أن الأولى ذكر التعريف على وجه تناولهما، فإصلاحه بحذف اللفظ وإيراد "هو" وما يجري مجراه مكانه فيقال: ما أفاد شيئا من جملة أشياء/ (282/ أ)، وهو متعين في نفسه وهو لا بعينه.
وحينئذ يكون جامعا مانعا لا إشكال فيه.
"وأما المبين" فيطلق على معنيين:
أحدهما: الخطاب الذي يحتاج إلى البيان وقد ورد عليه بيانه.
وثانيهما: الخاطب المبتدأ المستغنى عن البيان، وهو نوعان:
أحدهما: ما دل عليه الخطاب بحسب الوضع وهو النص والظاهر.
وثانيهما: ما دل عليه بحسب المعنى كمفهوم الموافقة والمخالفة، وسائر ما دل عليه النص بطريقة التعليل كقوله عليه السلام:"إنها من الطوافين والطوافات"، وكقوله:"أينقص الرطب إذا جف؟ " فقالوا:
(نعم) فقال: "فلا إذا"، وكما دل عليه النص بواسطة الفعل نحو الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به.
وكقوله [تعالى]: {واسأل القرية} فإنه لما تعذر إجراء الخطاب على ظاهره، وجب إضمار "الأهل" وما جرى مجراه، وهكذا كل خطاب دل الفعل على تعين مجازه في بادئ النظر، والأول يشبه أن يكون
هو الحقيقة، أما لغة فلأنه هو الذي ورد عليه البيان وبين دون الثاني.
والمبين: اسم المفعول من بين الشيء إذا ظهر.
وأما اصطلاحا: فلتبادر الفهم إليه عند إطلاقه وكثرة استعماله فيه.
وأما البيان: في اللغة: فهو اسم مصدر "بين" إذا أظهر، وأزال الإيهام كالكلام والأذان، يقال: بين يبين تبينا وبيانا كما يقال: كلم يكلم تكليما وكلاما وأذن يؤذن تأذينا وأذانا.
وأما في الاصطلاح فاعلم: أن للشيخ الغزالي- رحمه الله تعالى- فيه كلاما حسنا.
وهو: أنه لا شك في أن البيان أمر يتعلق بالتعريف والإعلام، وإنما يحصل الإعلام بدليل، والدليل محصل للعلم أو الظن فهاهنا أمور ثلاثة: الإعلام، ومحصله، ونتيجته.
فمن الناس من جعله عبارة عن التعريف، وإليه ذهب أبو بكر الصيرفي من أصحابنا، وهؤلاء قالوا في حده: إنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز
التجلي.
ومنهم من جعله عبارة عما به يحصل الإعلام: وهو الدليل.
وإليه ذهب القاضي أبو بكر، وأكثر أصحابنا: نحو الشيخ الغزالي، والإمام، وغيرهما، وأكثر المعتزلة: كأبي هاشم، وأبي حسين البصري، وغيرهما.
وهؤلاء قالوا في حده: إنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم أو الظن بالمطلوب منه.
ومنهم من جعله عبارة عن: نفس العلم أو الظن الحاصل من الدليل. وإليه ذهب أبو عبد الله البصري.
وهؤلاء قالوا: في تحديده "هو" عبارة عن تبيين/ (282/ ب) الشيء،
فالتبيين عندهم واحد.
واعلم أن القول الذي عليه الجماهير هو الأشبه: أما بحسب اللغة فلكثرة الاستعمال فيه، قال الله تعالى:{هذا بيان للناس} أي دليل لهم، ويقال: بين فلان كذا، بيانا حسنا إذا ذكر الدلالة عليه، ويقال: لفلان بيان حسن أي قدرة على تقرير الدلائل.
وأما بحسب الاصطلاح: فلأن الأصولي إذا سمع لفظ البيان من مثله لم يتبادر فهمه إلا إلى الدليل، لكن غايته أنه يتبادر إلى دليل مخصوص، وهو الدليل القولي فقط عند من يعتقد أنه مخصوص به، وأما من لا يعتقد ذلك فلا تخصيص عنده بدليل دون دليل بل يتبادر إلى مطلق الدليل.
ويقول الأصولي: وجد لهذا الكلام بيان أي دليل يبين المراد منه، وإن لم يحصل التعريف والإعلام به بعد، وبهذا عرف فساد المذهبين الآخرين، لأنه إذا لم يحصل التعريف والإعلام به، لم يحصل العلم أو الظن به لا لما قيل "أن" من ذكر الدلالة على الشيء لغيره، وأوضحها غاية الإيضاح يصح لغة وعرفا أن يقال:"تم بيانه" و"هو بيان حسن" وإن لم يحصل منه المعرفة بالمطلوب للسامع فلا يحصل به تعريفه ولا إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي، لأنه ليس من شرط التعريف والإعلام حصول المعرفة
والعلم، بدليل أنه يصح أن يقال: عرفه فما عرف، واعلم فما علم. ومن جعل البيان عبارة عن التعريف والإعلام، لم ينقل عنه أنه يشترط في لك حصول المعرفة للمعرف له، وكذلك ليس من شرط إخراج الشيء عن حيز الإشكال إلى حيز التجلي أن يكون ذلك حاصلا للسامعين لجواز أن يكون ذلك لمانع من جهتهم لا لإشكال في الشيء، ولهذا يصح أن يقال:"ظهر الحق" وتجلى "بحيث ليس فيه إشكال وإن أكثر الناس لا يعرفونه ولا يقال: بأن تحديده بذلك غير جامع لأن ما يدل على الحكم ابتداء من غير سابقه إشكال بيان، ولم يتصور فيه الإخراج عن حيز الإشكال إلى حيز التجلي لأنا نمنع أنه بيان على اصطلاحهم، فإن الذهن لم يتبادر عند سماعه إلا إلى بيان المجمل، أو ما فيه نوع من الإيهام، وكيف لا واختصاص البيان بما يزيل الإشكال على اصطلاحهم أظهر من اختصاصه بالدليل [القولي] والشيخ الغزالي المزيف لهذا الحد بما ذكرنا معترف بأن البيان في اصطلاح القوم مخصوص بالدليل القولي، وليس هو/ (283/ أ) عبارة عن مطلق الدليل عندهم، مع أن الفعل قد يكون بيانا للمجمل عندهم على ما ستعرف ذلك، والدليل العقلي أيضا قد يكون بيانا له فإن المشترك إذا استحال حمله على أحد مفهوميه لدليل عقلي، فإنه يتعين حمله على المعنى الآخر إذ ذاك، فبيانه هو ذلك الدليل العقلي.
وإذا عرفت هذه الألفاظ فلنشرع في المقاصد.
"الفصل الأول"
في المجمل وما يتعلق به
وفيه مسائل: