الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية/
…
(337/أ)
في أن مجرد فعل الرسول عليه السلام، هل يدل على حكم في حقنا أم لا
؟
فذهب ابن سريج، وأبو سعيد الاصطخري، وابن خيران وابن أبي هريرة، والحنابلة، وكثير من المعتزلة: إلى أنه للوجوب.
وذهب جماعة من الأئمة إلى أنه للندب، وينسب إلى الشافعي رضي الله عنه وهو اختيار إمام الحرمين.
وذهب الإمام مالك رضي الله عنه إلى أنه للإباحة وتابعه في ذلك جماعة من الأئمة.
وتوقف فيه جمهور المحققين منا كالصيرفي والواقفية.
واختاره الغزالي والإمام، وأكثر المعتزلة، فقالوا: لا ندري أنه للوجوب، أو للندب أو للإباحة، أو هو مخصوص به، أو يشاركه فيه غيره فهو محتمل لهذه الأقسام، ولا يستعين واحد منها إلا بدليل زائد. وهو المختار.
وذهب قوم ممن يجوزون المعاصي على الأنبياء: إلى أنه للحظر.
واحترزنا بقولنا: إن مجرد الفعل هل يدل على حكم في حقنا أم لا؟
عما دل عليه دليل آخر أو قرينة على أنه للوجوب كقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقوله: "خذوا عني مناسككم" فإن هذين الحديثين يدلان على وجوب إتباعه في أفعال الصلاة، وأفعال الحج، إلا ما خصه الدليل ونحو ما عرف أنه عليه السلام فعله بيانًا لما أمر به نحو قطعه يد السارق من الكوع.
فإنه فعله بيانًا لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} .
ونحو ما عرف بالقرينة أنه للإباحة، كالأفعال الجبلية نحو القيام والقعود والأكل والشرب، ونحو ما عرف أنه مخصوص به كالوتر والضحى والأضحى.
ونحو ما عرف أنه غير مخصوص به كأكثر التكاليف فإنه ليس في شيء من هذا الخلاف المذكور.
فإن قلت: فقصد القربة في الفعل، هل هو قرينة الوجوب، والندب، حتى لا يتأتى فيه الخلاف المذكور؟.
قلت: لا إذا الخلاف جار في القسمين فيما ظهر فيه قصد القربة وفيما لم
يظهر فيه ذلك غير أن القول بالوجوب والندب يقوى في القسم الأول، والقول بالإباحة والتوقف يضعف فيه.
وأما القسم الثاني: فبالعكس منه.
لنا: إن ما فعله يحتمل أن يكون واجبًا وندبًا "ومباحًا" إن لم يجوز الذنب عليه، وإن جوزنا الذنب "عليه" احتمل أن يكون ذنبًا أيضًا، وكل واحد منها يحتمل أن يكون من خصائصه، ويحتمل أن يكون مما يشاركه فيه غيره، والأحكام الندبية فإن لم يثبت إن شيء منها من خصائصه لكنه محتمل غير ممتنع، لأن عدم الوقوع لا يدل على الامتناع/ (337/ب) والخصائص وإن كانت نادرة بالنسبة إلى الأحكام التي يشاركه فيها غيره، لكنه محتمل، وإذا احتمل هذه الأقسام بعضها بصفة التسوية ككونه واجبًا وندبًا ومباحًا، وبعضها بصفة المرجوحية ككونه ذنبا وكونه من خصائصه امتنع الحكم بواحد منها، أما فيما يتساوى فيه الاحتمال فمطلقًا، وأما فيما يتفاوت فيه الاحتمال فعلى وجه الجزم لا على وجه الغلبة.
احتج القائلون بالوجوب: بالقرآن، والسنة، والإجماع، والمعقول.
وأما القرآن: فآيات أحدها: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} .
والأمر حقيقة في الفعل أيضًا على ما تقدم تقريره.
واللفظ المشترك يجب حمله على جميع مفهوماته على ما سبق تقريره وأيضًا، فتكون الآية أمرًا بالحذر المخالف قوله وفعله، وذلك يقتضي وجوب موافقة قوله وفعله، وهو المطلوب.
وجوابه: أنا لا نسلم أن الضمير في قوله: {عن أمره} [راجع إلى الرسول]"حتى" يمكن أن تكون الآية حجة في المسألة، وهذا لأن الضمير عائد إلى الله تعالى لكونه أقرب المذكورين، وحينئذ لا يمكن أن تكون الآية حجة في المسألة، وكون الآية واردة في الحث على طاعة الرسول لا ينافيه، بل هو مؤكد له أيضًا، لأنه لما نهاهم أن يجعلوا دعاؤه كدعاء غيره، ثم حذرهم عن مخالفة أمره كان ذلك مؤكدًا لما هو المقصود من الآية.
سلمنا: أن الضمير عائد إلى الرسول، لكن لا نسلم أن الأمر حقيقة في الفعل.
أما الجواب: عن استدلال القائلين به فقد تقدم.
سلمنا: أنه حقيقة فيه، لكن امتنع حمله عليه، لأنه محمول على القول بطريق الحقيقة إجماعًا، فلو حمل عليه أيضًا لزم استعمال المشترك في
جميع مفهوماته، وإنه غير جائز على ما تقدم تقريره.
وأما استدلال القائلين به فقد سبق الجواب عنه.
سلمنا: جوازه لكن وجد من القرينة ما يدل على أن المراد منه القول، وهي تقدم ذكر الدعاء، حيث قال:{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} فإن الرجل إذا قال لعبده: لا تجعل دعائي كدعاء غيري واحذر من مخالفة أمري، فهم من الأمر القول، وحينئذ لا يجوز حمله عليهما، لأن اللفظ المشترك إنما يحمل على المعنيين عند تجرده عن القرينة.
سلمنا: عدم القرينة المعينة لإرادة القول، لكن لم قلت: إن مخالفة الفعل عبارة عن مجرد ترك الفعل كيف كان ذلك الفعل، حتى يلزم وجوب موافقة الفعل منه، وهذا لأن المخالفة في عرف الشرع عبارة عن ترك افعل هو واجب، بدليل أن ترك ما فعله الرسول على وجه الندبية، أو الإباحة، لا يمسى مخالفة له، ولا تاركه مخالفًا له إذ المخالفة اسم ذم فتختص بتارك الواجب، وكذلك إخلال المسافر، والمريض، بصوم رمضان [لا يسمى مخالفة "للمسلمين"، لما أنه غير واجب عليهما] وحينئذ لا يكون بيان أن تارك ما فعله الرسول عليه السلام يسمى مخالفًا له، إلا
إذا ثبت "أن" ذلك الفعل واجب، فإثبات وجوب ذلك يكون تاركه يسمى مخالفًا دور وهو ممتنع.
وما يقال: [من] أن مخالفة الفعل ضد موافقته: وهي عبارة عن أن يأتي بمثله فمخالفته هو أن لا يأتي بمثله، وأن المختلفين هما اللذان لا يسد أحدهما مسد الآخر، والترك لا يسد مسد الفعل، فكانا مختلفتين، فالتارك للفعل مخالف للفاعل له، فهو وإن دل بعد تسليم ما فيه من الضعف على أن المخالفة عبارة عن مجرد ترك الفعل، لكنه بحسب اللغة دون عرف الشارع فلا يكون منافيًا لما قلنا.
وثانيها: قوله تعالى: {واتبعوه} والإتباع قد يكون في القول، وقد يكون في الفعل، بدليل أن يقال: إن فلان متبع لأقوال فلان وأفعاله، والإتباع في الفعل هو أن يأتي بمثل فعله والأمر للوجوب على ما تقدم،
فيكون الاتباع في القول، والفعل واجبًا.
وجوابه. أن هذا الأمر إما للندب، أو للوجوب، فإن كان الأول: سقط الاستدلال به على وجوب الإتباع.
وإن كان الثاني: وجب حمله على ما يكون من أقواله وأفعاله للوجوب، لئلا يلزم إيجاب ما ليس بواجب، وحينئذ يتوقف إثبات وجوب الفعل على كون ذلك الفعل واجبًا، فإثبات إيجاب الفعل يوجب الإتباع دور وهو ممتنع.
فإن قلت: هو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل، وحينئذ لا يلزم ما ذكرتم من المحذور المذكور.
قلت: هذا باطل.
أما أولًا: فلأنه لا عموم للمقتضى ودلالة: (واتبعوه) على وجوب إتباعه في أقواله: إنما هي على وجه الاقتضاء، فكان من حقه أن لا يضمر فيه غيره فلو سلم إضمار ما كان من الأفعال الواجبة فيه أيضًا، وجب أن لا يراد عليه تقليلًا لمخالفة الأصل.
أما ثانيًا: فلأن التخصيص خلاف الأصل، وإذا كان الحمل على العموم يستلزم خلاف الأصل كان حمله عليه أيضًا خلاف الأصل.
وثالثها: قوله تعالى: {قل [إن] كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} جعلت الإتباع لازمًا للمحبة، ومحبة الله واجبة بالإجماع ولازم الواجب واجب، فالإتباع واجب.
وجوابه: ما سبق.
ورابعها: قوله تعالى: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم/ (338/ب) عنه فانتهوا} ، وإذا فعل فعلًا فقد أتانا به فيجب الأخذ به للأمر.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه أريد به الفعل، إذ القرينة وهي مقابلته بالنهي دالة على أنه أريد به القول.
سلمنا: ذلك لكن المراد منه ما كان من الأفعال الواجبة لما سبق، وحينئذ يلزم الدور المذكور.
وخامسها: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} وهذا جاري مجرى التهديد على ترك التأسي به، لأن معنى الآية أن من يرجو الله واليوم الآخر فله فيه الأسوة الحسنة، ومن لم يرجو الله واليوم الآخر فليس له فيه الأسوة الحسنة، فيكون وعيدًا على ترك التأسي به، أو نقول: بعبارة أخرى إنه جعل التأسي به لازمًا لرجاء الله واليوم الآخر، فيلزم من عدم التأسي به عدم رجاء الله واليوم الآخر، وهو محرم فما يستلزمه يكون أيضًا كذلك، والتأسي به في الفعل إنما هو بإتيان مثل فعله، فيكون الإتيان بمثل فعله واجبًا.
وجوابه: أنا لا نسلم أن التأسي به في الفعل إنما يكون بإتيان فعله ولم لا يجوز أن يقال: إنه يكفي فيه أن نستخيره لأنفسنا ونعتقد أن لنا في فعله الخيرة لو فعلناه وإنما فعله حق من غير أن يعترض عليه، ومعلوم أن هذا لا يستدعي حصول الفعل منا، فضلًا عن أن يكون حصوله على سبيل الوجوب.
سلمنا: أنه لابد من الفعل، لكن المعتبر في التأسي به فيه أمران:
أحدهما: إتيان مثل فعله.
وثانيهما: إتيانه على وجه فعله الرسول على ذلك الوجه، وحينئذ
يتوقف وجوب الإتيان بمثل فعله على كون ذلك الفعل واجبًا، فلو أثبت وجوبه يكون الإتيان به واجبًا لزم الدور وأنه محال.
سلمنا: أنه لا يعتبر في التأسي معرفة وجه الفعل، لكن قوله لكم "ينفي" أن يكون الأسوة واجبة، إذ لا يقال هذا واجب لكم، بل يقال واجب عليكم.
سلمنا: أنه لا يدل على الوجوب، لكن على سبيل العموم أو في الجملة.
والأول ممنوع، وهذا لأن الفرد المنكر لا يفيد عموم الشمول وفاقًا.
وعموم البدلية لا يفيد لما سيأتي، والثاني مسلم لكنه غير مفيد إذ النزاع في مطلق أفعاله عليه السلام إلا ما خصه الدليل لا في البعض، لا يقال: أنه وإن لم يفد التعميم من حيث اللغة، لكنه يفيده من حيث العرف، إذ لا يقال للإنسان إن لك في فلان أسوة حسنة إذا كان له أسوة حسنة في بعض أفعاله، أو فعلين، بل إنما يقال: ذلك لو كان له فيه أسوة حسنة في كل/ (339/أ) أفعاله، إلا ما خصه الدليل، لأنا نمنع ذلك، وهذا لأن التغيير خلاف الأصل ولأنه يقال: في العرف أيضًا فيمن تعلم من إنسان نوعًا واحدًا من العلم أن لك في فلان أسوة حسنة، ولأنه لا يفهم في العرف أيضًا من قول القائل: لغيره لك في فلان أسوة حسنة في كل الأمور أو في بعضها التكرار [أو النقض، ولو كان مفيدًا له لفهم في الأول والتكرار] وفي
الثاني النقض.
وسادسها: قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا} .
دلت الآية على أن تشريع الحكم في حقه عليه السلام، إنما كان لأجل التسوية بينه وبين أمته، وذلك يدل على وجوب الإتيان بمثل فعله تحقيقًا لمعنى التسوية.
وجوابه: منع دلالتها على التسوية في نفس حصول الفعل بل من حيث شرعيته، فعلى هذا إنما تدل الآية على وجوب الإتيان بمثل فعله أن لو كان فعله واجبًا فإثبات وجوبه يوجب الإتيان بمثله دور وأنه ممتنع.
وسابعها: قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} .
دلت الآية على وجوب طاعة الرسول، والإتيان بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله بعد طاعة له فيكون الإتيان بمثل فعله واجبًا.
وجوابه: أن الإتيان بمثل فعله إنما يكون طاعة أن لو كان فعله مأمورًا به على ما عرف من تفسير الطاعة على رأينا، فإثبات كون الإتيان بمثل فعله مأمورًا
به يكون طاعة دور وهو محال.
وأما السنة: فمن وجوه:
أحدها: ما روى عنه عليه السلام أنه لم واصل واصلت الصحابة معه.
وثانيها: أنه لما خلع نعله في الصلاة خلعوا نعالهم فيها.
وثالثها: إنه لما خلع خاتمه خلعوا خواتيمهم. ولولا أنه تقرر عندهم
وجوب متابعته في أقواله وأفعاله عليه السلام لما فعلوا ذلك. لاسيما وبعض تلك الأفعال مخالف للنهي، وبعضها مخالف للأمر، ويؤكده أنه عليه السلام لم ينكر ذلك عليهم، بل بين بعد السؤال علة انفراده بتلك الأحكام على ما هي مذكورة في تتمة الأحاديث.
ورابعها: أنه أمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا فشكى إلى أم سلمة فقالت: (أخرج إليهم واحلق واذبح ففعل، فذبحوا وحلقوا متسارعين) ولولا أنه تقرر عندهم أن متابعة أفعاله آكد من متابعة أقواله، لما كان الأمر كذلك. ويؤكده، ما روي أنه عليه السلام لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فلم يفسخوا، وقالوا: ما بالك أمرتنا بفسخ الحج إلى/ (339/ب) العمرة ولم تفسخ.
وخامسها: ما روي أنه قال في جواب من سأل أم سلمة عن قبلة الصائم "ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم" عدل عن الجواب بقوله: إلى
الإخبار عن فعله، وذلك يدل على أنه آكد من قوله في وجوب الإتباع، ونحوه ما روي عنه عليه السلام أنه قال: في جواب سؤال أم سلمة عن بل الشعر في الاغتسال: "أما (أنا) فيكفيني أن أحثوا على رأسي ثلاث حثيات من ماء".
وجوابه: من وجوه:
أحدها أن هذه الأخبار أخبار أحاد فلا تثبت بها حجية الأفعال كحجية القياس، وخبر الواحد والإجماع، فإن كل واحد منها قاعدة من قواعد الأصول، وهذا الجواب يستقيم على رأي الجماهير الذين يرون أن حجية هذه القواعد يقينية قطعية. فأما الذين لا يرون ذلك نحو أبي الحسين وغيره فلا يستقيم ذلك على رأيهم.
وثانيها: أن ما ورد من هذه الأخبار فيما يتعلق بالصلاة [والحج] وهو أكثرها فلا حجة فيها إذ الرسول عليه السلام بين أن شرعه وشرعهم فيه سواء حيث قال "صلوا كما رأيتموني أصلي" وحيث قال: "خذوا عني مناسككم" وما لم يرد فيه نحو حديث "الوصال" و"قبلة الصائم".
فجوابه: أنا لا نسلم أن الإتباع فيه على سبيل الوجوب، وهذا لأن القول يوجب إتباع ما ليس بواجب يقتضي وجوب ما ليس بواجب وهو متناقض، وهذا أيضًا جواب عن جميع ما اتبعوه فيه من المندوبات والمباحات.
وأما قبلة الصائم، فلعله إنما كان، لأنه قد ثبت عندهم بدليل، نحو بيانه أو الاستقراء مساوته لهم في حكم المفطرات، وإن شرعه شرعهم فيه،
وعلى هذا يكون وجوب الإتباع مستفادًا من دليل آخر لا من نفس الفعل.
ويخص الوصال أنهم إنما اتبعوه فيه لظنهم أنه من واجب الصيام، لأنه عليه السلام أمرهم بالصيام، ثم أنه صام وواصل فظنوا أنه قصد بذلك امتثال الواجب وبيانه حتى عرفوا بصريح النهي أنه ليس كذلك.
وثالثها: أنهم وإن اتبعوه في هذه الأفعال التي ذكرتموها، لكن من المعلوم أنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله، وإن كان كذلك فليس جعل إتباع البعض دليلًا على وجوب [الإتباع أولى من جعل عدم إتباع البعض "دليلًا" على عدم وجوبه]، كيف وإن الفعل لا يدل على الوجوب وتركه يدل على عدم الوجوب ظاهرًا.
وأما الإجماع: فهو أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجعون إلى أفعاله متمسكين بها فيما كانوا "مختلفين فيه"، وفيما كانوا يفعلونه روي أن الصحابة لما اختلفوا في وجوب الغسل من غير إنزال بعث/ (340/أ) عمر رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها يسألها عن ذلك.
فقالت: "فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا، فأخذ الناس بذلك" واتفقوا عليه، وليس لهذا الاتفاق مستند سوى الرجوع إلى فعله، فقد أجمعوا على أن مجرد فعله للوجوب.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر ويقول: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك".
وكان هذا وأمثاله شائعًا فيما بين الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير وكان إجماعًا على إتباع فعله.
وجوابه: من وجهين:
أحدهما: أن هذا الإجماع غير منقول إلينا بالتواتر، وإلا لكان العلم به ضروريًا حاصًلا للموافق والمخالف، بل بالآحاد وحينئذ لم يكن مقطوعًا به فلا يجوز إثبات مثل هذه القاعدة به لما سبق.
وثانيهما: أنا لا نسلم أن الإجماع حصل بمجرد الفعل.
أما الأول: فلما روت عائشة رضي الله عنها "أنه إذا التقى الختانان وجب الغسل" وقولها: "فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم" تأكيدًا (للقول) بالفعل.
وأما الثاني: فلا نسلم أن الإتباع فيه على سبيل الوجوب وسنده ما سبق.
سلمناه: لكن ليس للفعل بل لقوله: "خذوا عني مناسككم".
وأما المعقول: فمن وجوه:
أحدها: أن فعله يحتمل أن يكون واجبًا عليه وعلينا، ويحتمل أن لا يكون كذلك، وطريقة الاحتياط تقتضي حمله على الوجوب لما فيه من الأمن من العقاب إذ الحكم بالوجوب أفضى إلى الفعل.
وأجيب عنه: بأن طريقة الاحتياط "إنما" يصار إليها أن لو خلت عن الضرر قطعًا "وأما" إذا لم يكن كذلك فلا، وهنا كذلك، لأنه يحتمل أن يكون ذلك الفعل حرامًا على الأمة. وإذا كان كذلك لم يجب المصير إليه.
وزيف: بأن الصوم واجب احتياطًا في يوم الثلاثين من رمضان إذا غم الهلال مع احتمال أن يكون يوم العيد، فحينئذ يكون صومه حرامًا. وهو ضعيف.
لأن لا نسلم أن وجوبه بطريق الاحتياط، بل بالنص المشهور. وتعليله
بأن الأصل في الشهر هو الإتمام، والتمسك بالأصل غير طريق الاحتياط وغير مستلزم له وكذلك طريقة الاحتياط غير مستلزم له، بدليل أن المتطهر إذا شك في الحدث فإن التمسك بالأصل يقتضي بقاء الطهارة، وطريقة الاحتياط يقتضي وجوب الطهارة، فيكون كل واحد غير مستلزم للآخر/ (340/ب).
ثم إن هذا المعترض أجاب عنه: أن الاحتياط يكون أولى لما ثبت وجوبه كالصلاة الفائتة من صلوات يوم وليلة، أو كان الأصل وجوبه كما في صوم يوم الثلاثين من رمضان، إذا كانت الليلة معتمة.
فأما ما عساه أن يكون واجبًا وغير واجب، فلا. وما نحن فيه كذلك، حيث لم يتحقق فيه وجوب الفعل ولا الأصل وجوبه.
وهو أيضًا: ضعيف جدًا: فإن ما اختلف في وجوبه نحو الوتر، وقراءة الفاتحة، وغيرهما لا خلاف أن طريقة الاحتياط جارية فيه وأن الاحتياط فيه أولى مع أنه لم يثبت وجوبه ولا الأصل فيه الوجوب.
نعم لو قال: إن الاحتياط إنما يقتضي وجوب شيء لو كان ذلك الشيء واجبًا، أو كان الأصل فيه الوجوب، فأما إذا لم يكن كذلك فلا نسلم أنه يقتضي الوجوب كان له وجه، لأن الاحتياط لا يكون فيه أولى.
وثانيها: أن إتيان فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله تعظيم له، بدليل العرف، وتعظيم الرسول واجب إجماعًا، فيكون الإتيان بفعله واجبًا.
وجوابه: منع كلية الصغرى، وهذا لأن الإتيان ببعض أفعال المعظم قد يكون إخلالًا بتعظيمه وجزيته غير مفيد إذ الإتيان ببعض أفعاله واجب وفاقًا.
وثالثها: أن ما فعله، يحتمل أن يكون واجبًا، ويحتمل أن لا يكون واجبًا، لكن احتمال كونه واجبًا أظهر، لأن الظاهر منه عليه السلام أن لا يختار لنفسه سوى الأكمل "والأفضل" والواجب أكمل مما ليس بواجب، فيكون ما اختاره لنفسه واجبًا في حقه وإذا ثبت بهذا أنه يكون واجبًا في حقه وجب أن يكون واجبًا في حق أمته إذ لا قائل بالفصل فإن كل من قال: إن مطلق فعله للوجوب في حقه، قال بوجوبه في حق الأمة، ومن أنكر ذلك في حقه أنكر في حق الأمة أيضًا.
وجوابه: بعد تسليم الصغرى فإن فيها منعًا ظاهرًا منع إنتاج ما ذكروه من المقدمتين لما ذكروه من النتيجة [فإن] القياس من الموجبتين في الشكل الثاني غير منتج.
ورابعها: قياس الأفعال على الأقوال، بجامع كون كل واحد منهما مخصصا للعموم، ومقيدًا للمطلق، وبيانًا للمجمل.
وجوابه: أن الجامع وصف طردي.
سلمنا: مناسبته لكن الفرق بينهما هو أن القول فيه دلالة ظاهرة على ما هو المراد منه، فيكون محمولًا على الوجوب، إن كان فيه دلالة على الوجوب.
وأما الفعل فلا دلالة فيه/ (341/أ) أصلًا لأنه غير مصوغ للدلالة.
واحتج القائلون بالندب: بالنص. والإجماع، والمعقول.
أما النص: فقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} الآية.
ووجه الاستدلال به من وجهين:
أحدهما: ما تقدم من أنه قال "ولكم" وما قال "عليكم" وذلك يفيد أنه مندوب إليه إذ المباح لا يقع فيه "واللام" للاختصاص بجهة النفع والظاهر من جهة الشرع اعتبار النفع الأخروي لا الدنياوي.
وثانيهما: أنه وصف الأسوة بالحسنة وأدنى درجات الحسنة أن تكون مندوبة، فيجب التنزيل عليه، لئلا يلزم مخالفة الأصل من وجهين.
وجواب الوجه الأول: من الاستدلال أنا لا نسلم أن قوله "لكم" يدل على ندبيته، وهذا لأنه ليس في "اللام" إلا الدلالة على الاختصاص بجهة النفع، وهذا لا يدل على الندبية، بل على القدر المشترك بين المندوب والواجب، ضرورة حصول هذا المفهوم فيهما، والدال على القدر المشترك بين الصورتين لا دلالة عليهما، بل غايته أنه لا يدل على الوجوب ولا يلزم منه دلالته على الندبية.
فإن قلت: كون اللام للاختصاص بجهة النفع ينفي أن يكون المراد منه الوجوب، لأنه لا يتمحص جهة النفع في الوجوب ضرورة استحقاق العقاب على الترك فيه بخلاف المندوب فإنه تتمحص جهة النفع فيه من غير احتمال عقاب وضرر فيه فعلًا وتركًا.
قلت: ليس من شرط الاستعمال "اللام" في فعل أن لا يكون في ذلك الفعل ضرر بوجه "ما" لا في الفعل ولا في الترك، وإلا لامتنع استعماله في
كل شيء، ضرورة أن كل شيء فيه ضرر بوجه "ما""في" فعله أو في تركه بل لا يشترط في استعمالها سوى أنه لا ضرر فيما استعمل فيه من الفعل أو الترك، والواجب لا ضرر فيه من حيث الفعل فلا يكون كونها للاختصاص بجهة النفع منافيًا لاستعمالها فيه. وعن الوجه.
وعن الوجه الثاني: أن تعليل مخالفة الأصل وإن أوجب حمله على ما ذكرتم، لكن قوله عليه السلام:"دع ما يريبك إلا ما لا يريبك" يقتضي حمله على الوجوب، ضرورة أن حمله على الندب مما يريب، وحمله على الوجوب مما لا يريب، واعتبار النص أولى من اعتبار الأصل إذ به يترك الأصل.
سلمنا: صحة دليلكم، لكنه معارض بطريقة الاحتياط، وهذا إنما يتم إذا لم يشترط في اقتضاء الاحتياط الوجوب، أن يكون الشيء، واجبًا في نفسه إذ الأصل فيه الوجوب، أما إذا شرط ذلك فلا.
وأما الإجماع: فهو أنا رأينا أهل/ (141/ب) الأعصار متطابقين على ندبية الاقتضاء في الأفعال بالنبي عليه السلام وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب.
وجوابه: أنه منع أن ذلك بمجرد الفعل، بل لو صح فللقرائن، والأصل [وإن كان] عدم تلك القرائن، لكن يجب المصير إليها جمعًا بين الدليلين.
وأما المعقول: فهو أن فعله لابد وأن يكون راجح الوجود لئلا يلزم خلاف الظاهر، لأن كون فعله ذنبًا وعبثًا خلاف الظاهر، لو جوزنا الذنب عليه، وحينئذ يحتمل أن يكون واجبًا، ويحتمل أن يكون ندبًا، لكن الحمل على الندب أولى: لوجوه.
أحدها: أن الحمل على الوجوب حرج وضرر، وهو منفي بالنصوص النافية له فالحمل على الندب ليس كذلك، فكان أولى.
وثانيها: أن الرجحان مع عدم جواز الترك يستلزم مخالفة الأصل من وجهين، والرجحان مع جواز الترك يستلزم مخالفة الأصل من وجه، فكان أولى.
وثالثها: أن المندوب أكثر من الواجب، فكان الحمل عليه أولى، إذ الحمل على الأعم الأغلب أولى.
وجوابه: أنا لا نسلم أن فعله لابد وأن يكون راجح الوجود، ولا نسلم أن على تقدير المساواة يلزم العبث، وهذا لأن العبث هو الخالي عن الغرض، والفعل إذا كان في غرض نحو منفعة عاجلة. أو بيان أباحته بفعله، فلا نسلم أنه عبث.
سلمنا: أنه راجح الوجود لكن لم قلتم: أنه حينئذ يكون مندوبًا.
وأما ما ذكرتم من الوجوه الدالة على أن الحمل على الندب أولى، فهي
معارضة بما يدل على "أن" الحمل على الوجوب أولى، نحو قوله عليه السلام:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، وطريقة الاحتياط، وبما أن الحمل على الوجوب أكثر فائدة، ضرورة أنه أكثر ثوابًا، وعورض الوجه الثالث بما أن الحمل على المباح أولى لما ذكره، ضرورة أن المباح أكثر من المندوب.
واحتج القائلون: بالإباحة: بوجهين:
وأحدها: هذا الذي تقدم ذكره.
وثانيها: أن الحرج عن فعله مرتفع، إما قطعًا، وهو على تقدير أن لا يجوز الذنب عليه أو ظاهرًا وهو على تقدير جوازه، فإن "كان" على تقدير جواز الذنب عليه، لاشك أن صدوره منه خلاف الظاهر، والراجحان منفي عنه بالأصل ترك العمل بهذا الأصل فيما دل الدليل على وجوبه أو ندبيته فوجب أن يبقى معمولًا به في الباقي ويلزم من هذا أن يكون مباحًا.
وجواب الأول: منع أن المباح من فعله أكثر من غير الأفعال الجبلية والعادية الذي فيه النزاع، هذا إن عنوا بقولهم: المباح أكثر المباح من/ (342/أ) فعله [وإن عنوا به أن المباح من الأفعال في نفس الأمر أكثر فلا يفيد، لأن فعله] يحمل على ما هو الأكثر من فعله لا على ما هو الأكثر في نفسه، وعند هذا يتبين ضعفه ما عورض به الوجه الثالث.
وعن الثاني أجاب عنه الإمام، هب أنه في حقه كذلك، فلم قلتم: إنه في حق غيره كذلك؟. وهذا المنع يمكن دفعه بما تقدم من الإجماع اللاقائل بالفصل، فإنه إذا ثبت الإباحة بالنسبة إليه وجب أن يثبت في حق "الأمة" كذلك لئلا يلزم قول ثالث مخالف للإجماع. والأولى أن يجاب عنه بأن إلحاق الفرد بالأعم والأغلب يقتضي ترك ذلك الأصل في مطلق أفعاله، لأن أكثر أفعاله غير الجبلية والعادية راجح الوجود الذي هو قدر مشترك بين الواجب والمندوب.
سلمنا صحة الدليل، لكنه معارض بما أن حمل فعله على الوجوب أو الندب حملًا على أشرف المراتب، ومعلوم أن حمل الأشرف على أشرف مراتبه الأولى.