الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
يجوز ورود المجمل في كتاب الله تعالى و [سنة] رسول "الله صلى الله عليه وسلم
"، والدليل عليه ما تلونا من الآيات هنا، وفي مسألة أنه يجوز ورود المشترك في كتاب الله تعالى وسنة ورسول [الله عليه السلام] والكلام في هذه المسألة نفيا وإثباتا ما سبق في تلك المسألة، ولا حاجة إلى التطويل.
المسألة الثالثة
[لا إجمال في التحريم والتحليل المضافين إلى الأعيان]
ذهب جماهير الأصوليين من الفريقين، إلى أن التحريم والتحليل المضافين إلى الأعيان نحو قوله تعالى:{حرمت عليكم أمهاتكم} لا إجمال فيه، بل يفيد بحسب العرف تحريم الفعل المطلوب من تلك الأعيان
فقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} يفيد تحريم الاستمتاع، وقوله تعالى:{حرمت عليكم الميتة والدم} يفيد تحريم أكل الميتة وشر الدم.
خلافا للكرخي، وأبي عبد الله البصري، فإنهما ذهبا إلى أنه مجمل.
لنا وجوه:
أحدها: قوله عليه السلام "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها".
ووجه الاستدلال به هو أن التحريم المضاف إلى الشحوم، لو لم يفد تحريم كل نوع من أنواع التصرفات المتعلقة بها، لما استحقوا اللعن/ (284/ ب) على بيعها وأكل أثمانها.
فإن قلت: إنه حكاية وهي لا تفيد التعميم، فلعل ذلك التحريم كان "على" وجه يفيد تحريم جميع أنواع التصرفات المتعلقة بها، وذلك مما لا نزاع فيه وليس في الحديث ما يدل على أن ذلك التحريم كان مطلقا حتى حصل مقصودكم.
سلمنا: أنه كان مطلقا، لكن لا نسلم أنه لو لم يفد تحريم جميع أنواع التصرفات لما استحقوا اللعن، وهذا لأنه يجوز أنهم إنما استحقوا ذلك، لأنهم عملوا ذلك قبل الاستكشاف وطلب البيان وصادفوا ما هو المحرم عليهم من جملة تلك التصرفات، وكان الواجب عليهم أن لا يقدموا على شيء من التصرفات المتعلقة بها قبل الاستكشاف، فلما تركوا ذلك وصادفوا المحرم استحقوا اللعن.
قلت: الأصل والظاهر متطابقان في الدلالة على أنهم إنما استحقوا ما استحقوا بمجرد مخالفة تحريم الشحوم لا غير.
أما الأول: فلأن الأصل عدم ما يظن أنه مستفاد منه غير التحريم.
وأما الثاني: فلأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعليته فترتب اللعن على البيع وأكل الثمن بعد تحريم الشحوم، يدل على أن علته هي مخالفة تحريم الشحوم بالبيع وأكل ثمنها.
وعن الثاني: أنه لو كان ذلك لما ذكرتم، لكان الواجب التصريح بذلك علمنا أنه ليس لما ذكرتم.
ثانيها: أن المتبادر إلى الفهم عند سماع قول القائل: هذه المرأة حرام على هذا الرجل، أو حرمت هذه المرأة عليه، أو هذا الطعام حرام، أو حرم هذا الطعام، إنما هو تحريم الاستمتاع بها، وتحريم أكل الطعام، والتبادر دليل الحقيقة.
فإن أحيل ذلك إلى العرف الطارئ، دفع بأن الأصل عدم التعبير.
ولئن سلم: كان المقصود أيضا حاصلا لأنا ما ادعينا سوى أنه يفيد بحسب العرف تحريم الأفعال المطلوبة من تلك الأعيان سواء كان العرف مطابقا لمقتضى اللغة أو لم يكن.
وثالثها: أن التعميم أكثر فائدة من الإجمال [لأن مدلولاته معينة وأكثر بخلاف مدلول المجمل، فإنه غير معين وأقل منه] فكان الحمل عليه أولى.
فإن قلت: التعميم وإن كان أكثر فائدة من الإجمال، [لأن مدلولاته معينة وأكثر، بخلاف مدلول المجمل، فإنه غير معين] لكنه في هذا المقام يستلزم محذورين، وهما كثرة الإضمار، ولزومها إياه دائما "لأن مدلولاته
معينة وأكثر بخلاف مدلول المجمل فإنه غير معين وأقل منه" بخلاف محذور الإجمال، فإنه يزول عنه عندما عرف المراد منه، بدليل آخر وليس فيه كثرة الإضمار، بل لا يضمر فيه إلا أمر واحد/ (285/ أ) فمع المحذورين، لم قلتم أنه أولى من الإجمال؟
قلت: لا نسلم أولا لزوم كثرة الإضمار، لم سلم أن هناك إضمار وهذا لأن المعنى من قوله تعالى:{حرمت عليكم أمهاتكم} حرم عليكم جميع أنواع الاستمتاع بها، وإنما يلزم من الأول دون الثاني.
فإن قلت: إن كثرة المضمر يستلزم كثرة الإضمار، لأن قولنا: حرم جميع أنواع الاستمتاع جار مجرى قولنا: حرم عليكم النظر بالشهوة، وحرم عليكم القبلة، وحرم عليكم المعانقة، وحرم عليكم الوطء، وإذا كان كذلك كان كثرة الإضمار لازما له. قلت: لا نسلم أنه جار مجراه، وقد عرفت سنده فيما سبق غير مرة فلا نعيده.
سلمنا: لزوم كثرة الإضمار ودوامها له، لكنه مع هذا خير من الإجمال، لأن ما هو المقصود من الكلام، هو إفهام المراد منه حاصل فيه كل زمان.
وأما الإجمال فإنه يخل بهذا المقصود قبل البيان في حق الكل وبعده في حق من لا يصل إليه البيان، وهو موقع للمتكلم في كلفة البيان، وللسامع في كلفة طلبه، والنظر بخلاف القول بالتعميم، فكان أولى.
احتجا بوجهين:
أحدهما: أن التحليل والتحريم يستحيل أن يتعلقا بالأعيان، لأنهما حكمان شرعيان، والحكم الشرعي إنما يتعلق بما هو مقدور للعبد من أفعاله، والأعيان غير مقدورة له فيستحيل تعلقهما بها، وحينئذ يجب صرفهما عن ظاهرهما وتعليقهما بالأفعال المتعلقة بتلك الأعيان دفعا للتعطيل، فإما أن تعلقهما بجميع الأفعال المتعلقة بها وهو باطل، لأنه إضمار من غير حاجة أو يتبعض بمعين وهو أيضا باطل، لأنه ليس البعض أولى من البعض لعدم ما يدل عليه لفظا ومعنى أو ببعض غير معين، وهو أيضا باطل، لأنه خلاف الإجماع "أولا تعلقهما بشيء وهو أيضا باطل، لأنه تعطيل للنص وهو أيضا خلاف الإجماع" فلم يبق إلا لتوقف إلى أن يدل دليل على ذلك التعليق، وهو المطلوب.
وجوابه: أنا لا نسلم أن تعليقها بالأفعال المطلوبة من تلك الأعيان على وجه الإضمار، وهذا لأن اللفظ يدل عليه بطريق الحقيقة بعرف الاستعمال بدليل التبادر كما سبق في الاستدلال، وإذا كان كذلك/ (285/ ب) لم يكن هناك إضمار، فضلا عن أن يكون بغير حاجة.
سلمنا: أن تعليقهما بالأفعال المتعلقة بتلك الأعيان على وجه الإضمار، لكن لا نسلم إنه البعض أولى من البعض، بل الأفعال المطلوبة منها أولى بذلك للعرف.
وثانيهما: أنهما لو دلا على تحريم فعل معين، أو تحليله لدلا عليه في كل موضع واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله.
وجوابه: منع الملازمة، وما الدليل عليه.
سلمناه: لكن في التعين النوعي، فأما في التعين الشخصي فممنوع، والتعين النوعي حاصل فيما نحن فيه فإنهما يدلان في كل موضع على تحريم وتحليل الأفعال المطلوبة من تلك الأعيان.