الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الدلالة اللفظية: فلأن الإطعام من الأفعال التي يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما إذ يجوز أن يقول: أطعمت زيدا ولا يقول: ما أطعمته، ويجوز أن يقول: أطعمت الطعام، ولا يقول: ما أطعمته، والأصل في هذا النوع من الفعل إذا ذكر أحد مفعوليه أن يذكر ما هو الأهم في غرض المتكلم، فذكر عدد المساكين يشعر بزيادة اعتبار الشارع به إشعارا/ (317/ب) ظاهرا، فتركه عن درجة الاعتبار وجعله كالمسكوت عنه، و"اعتبار المسكوت عنه، وجعله كالمذكور خلاف ظاهر الكلام وفصاحته ودخوله في هجنته وركاكته، وكلام الله تعالى يصان عنه.
المسألة الرابعة
من التأويلات البعيدة تأويل يخالف ظاهر اللفظ، وما أشعر به اللفظ من التعليل
، نحو تأويل أبي حنيفة- رضي الله عنه قوله تعالى:} ولذي القربى {فإنه صرفه عن العموم حيث اعتبر الحاجة فيهم، في جواز صرف ما يصرف من الغنيمة إليهم المضاف بلام التمليك إليهم من غير اعتبار الحاجة فيهم، وألغى ما أشعر به اللفظ من تعطيل وجوب الإعطاء بالقرابة لشرفها وتعظيمها وجلالة قدرها، ولذلك حرك عليهم الصدقة التي هي الطهرة المأخوذة على وجه الذل. لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعليته
مع خلوه عن المناسبة على ما ستعرف ذلك- إن شاء الله تعالى-، فكيف مع المناسبة، فأعطى الفقير منهم دون الغني. وهذا التأويل مع ما فيه من مخالفة ظاهر العموم والتعليل الذي أشعر به اللفظ إشعارا ظاهرا فيه اعتبار زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ عنده لا يجوز إثباته بخبر الواحد فكيف بالقياس وكونهم مذكورين مع اليتامى والمساكين مع قرينة إعطاء المال ليس قرينة دالة على اعتبار الفقير فيهم، وإلا لكان ما كان يأخذه الرسول- عليه السلام في حال حياته من هذا الخمس مشروطا أيضا بالحاجة، ضرورة وجود هذه القرينة بعينها في حقه عليه السلام. ولا قائل به وأيضا: لو كان مثل هذه القرينة مانعا من أن يكون اعتبار الفقير فيهم زيادة على النص، لكان تيسير الفاتحة مانعا من أن يكون وجوب قراءته في الصلاة زيادة على قوله تعالى:} فاقرؤا ما تيسر من القرآن {حتى لا يمنع قبول ما ورد في وجوب قراءته في الصلاة من أخبار الآحاد، هذا كله لو اعتبر القرابة بشرط الحاجة والفقير في صرف ما يصرف إليهم من الخمس، فأما إذا لم يعتبرها ويجعلها كالعجم الطماطم، وهو الظاهر من مذهبه إذ الخمس عنده
ينقسم على ثلاثة أسهم فيعطى ذوي القربى من سهم المساكين لفقرهم لا لقرابتهم فلا وجه له اصطلاح وليس هو من التأويل في شيء، بل هو تعطيل للنص.
فإن قلت: إنما ذكروا لئلا يحرموا عن هذا كما حرموا عن الصدقة.
قلت: هذا باطل لوجوه:
أحدهما: أن فيه إبطال دلالة "اللام"، إذ هي ظاهرة في التمليك إذا أضيفت به إلى من يصلح للملك.
وثانيها: أن فيه إبطال دلالة "واو" العطف، فإنها تقتضي الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه فيما عطف عليه، وقد عطف على الاستحقاق، إذ كان / (318/أ) الرسول- عليه السلام يستحق سهمه المضاف إليه، فوجب أن يثبت الاستحقاق لذوي القربى أيضا تسوية بينهما فيما عطف عليه.
وأيضا فإنه عطف عليه اليتامى والمساكين، فلو كان حكمه جواز الصرف لكان حكم ما عطف عليه أيضا كذلك لما سبق.
وثالثها: أن ما ذكروه إنما يحتاج إليه أو يحسن ذكره، لو كان يظن أو يتخيل حصول موجب تحريم الصدقة في الخمس، أما إذا لم يظن ذلك ولا يتخيل فلا وهو غير متخيل فيه، إذ الموجب له هو كون الصدقة غسالة الناس وأوساخهم.
ورابعها وخامسها: ما تقدم من الوجهين.
وسادسها: لو كان ذكرهم إنما هو لدفع ما ذكروه من الظن الفاسد والتخيل الباطل، لوجب أن يذكروا على وجه لا يوجب ظنا فاسدا آخر أقوى منه، فكان ينبغي أن لا يذكروه على الاستقلال، بل كان ينبغي أن يذكر عند ذكر المساكين ما ينبه على هذا المقصود. لا يقال: ما ذكرتم في ذي القربى فهو لازم عليكم في اليتامى فإنكم تعتبرون الحاجة فيهم في جواز] صرف [سهمهم إليهم. لأنا نقول: لا نسلم "أنا نعتبر ذلك، وهذا لأن الأظهر من قول الشافعي- رضي الله عنه: أنه لا يعتبر ذلك.
قلنا: أن يمتع ذلك بناء عليه. ولئن سلم الحكم فيه، فليس بلازم علينا من جملة ما ذكرنا إلا تخصيص عموم اليتامى على ما لا يخفى ذلك عليك، وتخصيص العموم للقرينة جائز، والقرينة المخصصة له هي ذكره مع قرينة إعطاء المال، فإن ذلك مشعر بالحاجة فيهم، ولأنه ليس فيهم معنى يناسب الإعطاء "غير" الحاجة، بخلاف ذوي القربى فإن جلالة قدر القرابة يناسب الإعطاء لهم. ومن هذا الجنس تأويلهم في قوله- عليه السلام:"لا يقتل مؤمن بكافر" حيث قالوا: المراد منه الكافر الحربي، فإنه
خلاف ظاهر العموم، إذ النكرة في سياق النفي من أدل ألفاظ العموم، وخلاف ما أشعر به اللفظ من التعليل، فإنه يشعر إشعارا ظاهرا على أن العلة لذلك هو مطلق الكفر لما سبق، وكن الخاص معطوفا عليه لا يصلح أن يكون قرينة مخصصة له لما سبق في العموم.
المسألة الخامسة
من التأويلات البعيدة، تأويل بعض أصحابنا: قوله عليه السلام: "من ملك ذا رحم محرم عتق عليه" فإنه أوله عن عمومه وخصصه بالأصول
والفصول.
وهو بعيد جداً.
أما أولا: فلما تقدم أن ألفاظ الشرط والجزاء أقوى الدلالة على العموم، لا سيما إذا وردت ابتداء لتأسيس قاعدة، لا في حكاية حال وجواب عن سؤال، حتى يعتقد تخصيصه به.
وأما ثانيا: فلأن إرادة الآباء والأبناء من هذا اللفظ من غير قرينة ألغاز وتلبيس ألا ترى أن (318/ب) الرجل لو قال: لعبده: من بقيته من رحمي محرمي فأكرمه، ثم قال: أردت بذلك الآباء والأبناء عد ملغزا أو ملبسا.
وأما ثالثا: فلأنه سلك فيه مسلك الحدود، من حيث أنه بدأ بالأعم
وختم بالأخص، وذلك يدل على] أنه قصد به [الضبط، واختصاص الحكم] بما [ذكر من القيود، وإلا لم يكن ذكر القيد مفيدا، لأن فائدته ليس إلا ذلك.
وأما رابعا: فلأن الأصول والفصول يختصان بخاصية قرب القرابة وشرف النسب، وذلك يقتضي التنصيص عليهما احتراما لهما.
وأما خامسا: فلأن اللفظ أشعر بعلية الرحم مع المحرمية وتعظيمه وحرمته لما سبق غير مرة، فتنزيله على الأصول والفصول ترك لهذه الدلالة وهو باطل.
والشافعي رضي الله عنه لم يقل بمقتضى الحديث لا لأنه يؤكده ويخصصه بناء على القياس على وجوب النفقة بسبب البعضية لا غير أو لغيره بل لأن الحديث لم يصح عنده، لأنه موقوف على الحسن بن
عمارة.
ومن جنس هذا التأويل تأويل الحنفية قوله عليه السلام: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" وقد أولوه بتأويلات ثلاثة:
أحدهما: بالحمل على القضاء والنذر.
وهو بعيد، لأن النكرة في سياق النفي من أدل ألفاظ العموم على العموم، وقد قاله عليه السلام: ابتداء لتأسيس القاعدة، لا في جواب سائل حتى يعتقد تخصيصه به، فحمله على القضاء النادر الذي هو فرع الأداء، والنذر النادر الذي هو فرع الفرائض، وإخراج الصوم الأصلي الذي هو الغالب والمتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ الصوم وهو الفرض المعتاد والتطوع بعيد جدا، وإن كان بعده ليس كبعد حمل حديث النكاح على المكاتبة، إذ المكاتبة بالنسبة إلى النساء أندر من القضاء والنذر بالنسبة إلى الصوم.
وثانيها: وهو ما عزى إلى الطحاوي أنه محمول على نية صوم الغد
"قبل الغروب" من يومه، وكان يتبجح بهذا التأويل، لأنه أبقى "لا صيام" على عمومه.
وهو أيضا بعيد، بل أبعد من الأول.
ويدل على وجوه:
أحدها: أن سياق الخبر يدل على النهي من تأخير النية عن الليل والحث على تقديمها على بياض النهار الذي يصومه، وهذا المفهوم منه جاري مجرى الفحوى الذي لا ينكره دون إنصاف من المخلصين، فحمل الخبر على النهي
عن تقديم النية والحث على تأخيرها مضاد مقصود الكلام الذي سيق لأجله، فكان باطلا.
وثانيهما: أن حمل النهي على المعتاد أولى من حمله على ما لا يعتاد، بل لا يكاد يوجد، فضرورة أن النهي المعتاد أمس، وتأخير النية عن الليل معتاد بسبب الذهول / (319/أ) والغفلة عنها، وأما التقديم "فنادر" لا يفعله أحد، لأنه ينسب إذ ذاك إلى جنون وقلة عقل وهو وازع له عنه فلم يجز حمله عليه.
وثالثها: أنا وإن سلمنا أنه ليس بنادر، بل هو معتاد كاعتياد التأخير، لكن نقول: قوله: عليه السلام: "لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل" يقتضي النهي عن أن لا يقع مبينا وذلك قد يكون بالتقديم، وقد يكون بالتأخير وليس في اللفظ ما يقتضي تخصيصه بأحدهما، فوجب أن يحمل عليهما معا دفعا للإجمال، وتكثيرا للفائدة، فحمله على النهي عن التقديم فقط باطل ..
ورابعها: قالوا إنه محمول على نفي الكمال.
وهذا تفريع على أن حرف النهي إذا دخل على الاسم الشرعي يقتضي نفي حقيقته الشرعية، فأما إذا لم نقل بذلك سواء قيل بأنه مجمل فيهما أو هو حقيقة في نفي الكمال فليس هو من التأويل في شيء.
وهذا التأويل قريب.
وتضعيفه بأن يقال: انه مستعمل في القضاء والنذر لنفي الصحة وفاقا، فلو استعمل في غيرهما لنفي الكمال، لزم استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معا، وهو غير جائز، وبتقدير أن يكون جائزا لكنه خلاف استعمال الفصيح.
فإن قلت: هذا إنما يلزم لو كان القضاء والنذر مرادين منه.
وهو ممنوع وهذا لأن ما ذكرتم من أنهما نادران يدل على أنهما غير مرادين.
قلت: أما الدليل على أنهما مرادان فهو أن اللفظ عام وخروجهما عنه تخصيص له وهو خلاف الأصل، ولان الحكم على مقتضاه ثابت فيه والأصل "عدم" دليل آخر.
وأما ما ذكرنا في الليل إنما يدل على امتناع اقتصار إرادتهما لا على امتناع إرادتهما مطلقا، وإلا لزم أن لا يكون العام عاما، وأيضا فإن كونهما غير مرادين منه قول لم يقل به أحد فكان باطلاً.