الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
اختلفوا فيما إذا عرف وجه فعل الرسول عليه السلام من الوجوب، والندب، والإباحة، ولم يعرف أنه بيان لخطاب سابق، ولا أنه من خواصه، هل يجب علينا التأسي به: أي هل كنا متعبدين به، فإن كان واجبًا فعلى وجه الوجوب، وإن كان ندبًا فعلى وجه الندبية
، وإن كان مباحًا فباعتقاد إباحته أو لا؟
فذهب جماهير الفقهاء والمتكلمين إلى وجوب التأسي به.
وذهب بعض من توقف في المسألة الأولى: إلى أنه لا يجب ذلك ما لم يدل دليل على تسويتنا إياه في ذلك الفعل.
وفصل بعضهم: نحو أبي علي بن خلاد من المعتزلة، بين العبادات وغيرها فقال: بوجوب التأسي به في العبادات دون غيرها، كالمناكحات
والمعاملات.
احتج الجماهير: بالنص، والإجماع، والمعقول.
أما النص: فآيات:
أحدها: قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها "وطرا"} الآية، ولولا أنه متبع في أفعاله ومتأسى به فيها، لما كان للآية معنى.
ولقائل أن يقول: متى لم يكن للآية معنى إذا لم يكن الرسول متأسى به في هذا الحكم، أو وإن كان متأسى به في هذا، لكنه غير متأسى به في جميع الأفعال التي تقدم شأنها.
والأول: مسلم ومعلوم أنه لا يفيد المطلوب، لأن التسوية مستفادة عند الخصم من قرينة التعليل لا من مجرد الإباحة له.
والثاني: ممنوع، وهذا لأنه لا تناقض ولا خلل بين التصريح بالتسوية بينه عليه السلام وبين أمته في إباحة فعل معين وبين التصريح بحرمة إتباع ما/ (342/ب) عداه إلى أن يدل دليل على التسوية.
وثانيها: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} .
وقد عرفت أنه جاري مجرى الوعيد على "ترك" التأسي به، فيكون التأسي به واجبًا.
وتمام الكلام فيها سؤالًا وجوابًا قد تقدم، ولا يخفى عليك ما يسقط منه في هذا المقام، والذي نزيده هنا ما قيل: في إثبات إفادتها التعميم.
هو أن المقصود من الآية، إظهار شرفه عليه السلام، وإبانة لخطره.
وذلك إما أن يكون بوجوب التأسي به في فعل واحد، أو في جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل.
والأول: باطل. لأن ذلك الواحد إما معين، وهو باطل، لأنه ليس في اللفظ ما يدل عليه، أو غير معين وهو أيضًا باطل.
أما أولًا: فبالإجماع.
وأما ثانيًا: فلأن الإبهام خلاف الغالب من خطاب الشرع.
وأما ثالثًا: فلأنه ليس فيه مزيد إظهار شرفه عليه السلام، فيتعين الثاني: وهو المقصود.
وهو ضعيف، لأن ما هو المقصود من الآية: وهو إظهار شرفه، وإبانة خطره، عليه السلام حاصل بوجوب التأسي به في جميع أقواله وكثير من أفعاله الذي دل الدليل على التسوية، وهو غير ما ذكره من القسمين، وحينئذ لا يلزم التأسي به قبل الإطلاع على دليل التسوية.
وثالثها: قوله تعالى: {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} .
ووجه الاستدلال به ما تقدم.
وجوابه: بعض ما تقدم.
ورابعها: قوله تعالى: {"واتبعوه"} ، وتمام الكلام فيه أيضًا قد
تقدم.
وأما الإجماع: فهو أن الصحابة أجمعوا على الرجوع إلى أفعاله، نحو رجوعهم إلى تزويج ميمونة وهو حلال، أو حرام، أو نحو رجوعهم إلى أنه
.....................................................................
قبل وهو صائم، أو نحو رجوعه إلى أنه كان يصبح جنبًا وهو صائم، ونحو رجوعهم إلى تقبيله الحجر [الأسود]، وأمثالها كثيرة غير عديدة.
وكذا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء في الأفعال بالرسول عليه السلام، ولم يعللوا ذلك سوى أنه فعله عليه السلام.
وعند هذا لا يدفع هذا بما قيل لعل ذلك لقرينة غير الفعل، ولا يقدح فيه
بما تقدم من الوجهين.
أما الأول: فلأنا لا نسلم أن نقل هذا الإجماع غير متواتر، وكون العلم به غير حاصل للمخالف، غير قادح فيه، إذ يجوز أن لا يحصل العلم الضروري لبعض الشاذين.
سلمنا: أن نقله بطريق الآحاد، لكن هذه المسألة "ليست" قاعدة كلية مثل تلك، بل هي جزئية داخلة تحتها، وحينئذ لا يجوز التمسك فيه بالإجماع الظني، فإن التزم الخصم في تلك القاعدة بأنها أيضًا ظنية عنده سقط/ (343/أ) ذلك القدح عنه أيضًا كما تقدم.
وأما الثاني: فلما تقدم من أنهم كانوا يعللون ذلك بنفس الفعل ولم يند واحد منهم في ذلك الدليل الموجب للتشريك.
وأما المعقول: فمن وجهين:
أحدهما: أن ذلك الفعل يحتمل أن يكون مختصًا به، وحينئذ يحرم التأسي به فيه، ويحتمل أن لا يكون مختصًا به، وحينئذ يجب علينا التأسي به فيه، لكن الاحتمال الثاني أولى، لأن إلحاق الفرد بالأعم والأغلب أولى.
وثانيهما: أنه لو كان مختصًا به لوجد عليه دليل، كما في سائر ما اختص به، ولما لم يوجد ذلك إذ كلامنا في ذلك علمنا أنه غير مختص به ولا
يعارض بمثله، لأن التسوية في الأحكام ليس على خلاف الأصل "فلا يحتاج إلى دليل التشريك، بخلاف احتمال التخصيص فإنه على خلاف الأصل" فيحتاج إلى دليل يدل عليه.
واعلم أن من أنكر ذلك مطلقًا يليق بمذهبه، أن تكون الأفعال على الحظر حتى يمكنه التمسك بالأصل في حقنا، بأن يقول: إن فعله عليه السلام يحتمل أن يكون مختصًا به فيبقى على أصله في حقنا.
وجوابه: منع أن الأصل ذلك.
ولئن سلمناه: لكن احتمال التشريك أظهر كما سبق والأصل يترك بالاحتمال الظاهر.
واحتج من قال بالتفصيل: بأن الدليل قد دل على أن شرعه وشرعنا سواء في العبادات نحو قوله عليه (السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ونحو قوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم".
فلذلك قلنا: بوجوب التأسي به فيها بخلاف المناكحات، والمعاملات. فإنه لم يوجد فيها الدليل الموجب للتشريك، والأصل عدم شرعيته في حقنا فيبقى على الأصل.