الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة
] تأخير البيان [
اتفق الكل على أنه لا يجوز تأخير بيان الخطاب عن وقت الحاجة، وهي وقت العمل سوى القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق، فإنهم يجوزونه، والكلام فيه نفيا وإثباتا، فرع الكلام في تكليف ما لا يطاق، قد تقدم.
وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فقد اختلفوا فيه: فذهب جماهير أصحابنا، والحنفية إلى جواز تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت العمل مطلقا.
وذهب جماهير المعتزلة، والظاهرية، وبعض أصحابنا: كأبي بكر الصيرفي، وأبي حامد المروزي، وأبي إسحاق المروزي على ما
روى الغزالي عنه، وكثير من الحنفية إلى: امتناعه مطلقا إلا في تأخير بيان النسخ فإنهم يجوزونه.
ومنهم من فصل: فذهب جماعة إلى تجويزه في الأمر والنهي، دون الوعد والوعيد.
وذهب الكرخى وجماعة من الفقهاء: إلى تجويزه في المجمل دون غيره
وذهب أبو الحسين البصري: إلى المنع من تأخير البيان الإجمالي لا التفصيلي عن الخطاب الذي له ظاهر، وقد استعمل في خلاف ظاهره كتأخير بيان تخصيص العام، وتأخير بيان المنقولات الشرعية والمجازات اللغوية عن الحقائق الأصلية، وتأخير بيان النكرة إذا أريد بها شيء معين.
وكون هذا القسم من قبيل ما نحن فيه،] فيه [نظر: إن فسر خلاف الظاهر ينفي ما يثبته اللفظ أو إثبات ما ينفيه، وذلك لأن النكرة إنما تدل على واحد لا بعينه لعدم دلالته على التعيين لا لدلالته على عدم التعيين وبينهما فرق، وكيف لا وأصحابنا صرحوا بأن حمل المطلق على المقيد ليس خلاف ظاهر المطلق، بل هذا إثبات "أمور زائدة" لا يتعرض له المطلق لا بنفي ولا بإثبات بدليل آخر، وأي فرق بين حمل المطلق على المقيد، وبين حمل النكرة على المعين حتى يكون الثاني من قبيل خلاف الظاهر دون الأول، وتأخير بيان النسخ دون الخطاب الذي ليس له ظاهر بل نسبته إلى المعنيين سواء كالأسماء المشتركة والمتواطئة التي هي مجملات، فإنه يجوز تأخير بيانه إلى وقت الحاجة، والبيان الإجمالي هو أن نقول / (296/ب): هذا العام مخصوص وإن المراد من هذه اللفظة الحقيقة الشرعية أو المجاز اللغوي دون حقيقتها، وإن هذا الحكم سينسخ وهذا التفصيل ذكره بعض أصحابنا: كأبي بكر
القفال وأبي بكر الدقاق.
والعم أن البيان الإجمالي غير مفيد أصلا في القسم الثاني، لأن من المعلوم على تقدير إجمال المشترك أن المراد منه بعض مدلولاته، ومن المتواطئ بعض ما يصدق عليه الاسم فلذلك يشترطون ذكره عقيب الخطاب، كما شرطوه في القسم الأول لكونه مفيدا.
وأما البيان التفصيلي فتأخيره جائز في القسمين عندهم، فلا فرق بينهما إلا من حيث إنما هو فائدة البيان الإجمالي في القسم الأول حاصل في القسم الثاني من لفظه، فلا معنى لاشتراطه بخلاف القسم الأول فإنه غير مستفاد منه ذلك.
وإذا عرفت مذاهب الناس فيه فلنذكر الدليل عليها.
أما الدليل على ما ذهب إليه أصحابنا فعام تناول كل الصور، وخاص يختص ببعضها، أما العام فوجوه:
أحدها: قوله تعالى:} إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه {.
ووجه الاستدلال به ظاهر وهو أن قوله:} فإذا قرأناه فاتبع قرآنه {.
يدل على إنزاله عليه لاستحالة أن يكون مأمورا بإتباع القرآن قبل إنزاله
عليه، ثم إنه تعالى أخر بيانه عنه، لأنه قال:} ثم إن علينا بيانه {، لان كلمة "ثم" للتراخي والمهلة، على ما تقرر ذلك في اللغات، وذلك يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الإنزال وهو المطلوب.
فإن قلت: لا نسلم أن المراد من البيان: هو البيان الذي اختلفنا فيه، وهو بيان المجمل والعموم والمطلق، بل المراد منه عندنا إظهارا وإشهاده للخلائق، فإن البيان في اللغة عبارة عن الإظهار على ما تقدم تعريفه، يقال: بان لنا الكوكب الفلاني إذا ظهر، وبان لنا سور المدينة إذا ظهر، وإذا كان كذلك فليس حمله على الإظهار خلاف الظاهر، بل هو على وقفه إذ حمل اللفظ على موضعه وهو الظاهر، فلم قلتم إنه لا يجوز الحمل عليه وأن يكون مرادا منه؟ ثم الذي يدل على أن الحمل عليه أولى، هو أن على تقدير الحمل عليه لا يلزم منه تخصيص "وأما على تقدير الحمل على البيان المختلف فيه يلزم منه تخصيص" الضمير الذي في قوله:} ثم إن علينا بيانه {، لأن ذلك الضمير راجع إلى ما ترجع إلية الضمائر التي قبله، لئلا يلزم عود الضمير إلى غير المذكور وهي التي في قوله:} لا تحرك به لسانك / (297/أ) لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه {.
وهي راجعة إلى كل القرآن.
أما أولا: فلأن أول هذه الضمائر هو الذي في قوله:} لا تحرك به لسانك لتعجل به {.
إما أن يكون راجعا إلى القرآن وإلى بعضه، إما معينا، أو غير معين، والقسمان الأخيران باطلان فتعين الأول.
أما الأول: منهما فلعدم دلالة الدليل عليه، إذ الأصل عدم ما يظن دليلا عليه.
وأما الثاني: فلاستلزام الإجمال، وأما ما يعمهما فلأن دأبه عليه السلام بذلك ما كان مختصا ببعض القرآن دون بعض حتى نهى عنه، بل كان يفعل ذلك بكل القرآن حرصا على الحفظ فنهى عنه.
وإذا كان ذلك الضمير راجع إلى كل القرآن، وجب أن يكون ما بعده كذلك لئلا يلزم التخصيص.
وأما ثانيا: فلأن الضمير في قوله:} إن علينا جمعه وقرآنه {راجع إلى كل القرآن، لأنه لا يحصل مقصوده من جمع بعض القرآن وقراءته، وهذا لأن مقصود تأمين الرسول عليه السلام عما كان يخاف عليه، وهو ذهاب بعض القرآن عنه فإنه عليه السلام ما كان يعجل في التلقف إلا خوفا منه، بل إنما "يحصل" بجمع كل القرآن وقراءته فوجب أن يكون الضمير راجعا إليه تحصيلا للمقصود وتحسينا للتعليل، فإنه وارد لتعليل النهي.
وأما ثالثا: فلأنه ليس بعض القرآن بذلك أولى من بعض، فأما أن لا يعود إلى شيء منه وهو باطل بالإجماع "أ" وإلى بعض غير أي معين أي بعض كان، وهو أيضا باطل لما سبق، أو يعود إلى الكل وهو المطلوب.
وأما رابعا: فلأن الضمير في قوله:} فإذا قرآناه فاتبع قرآنه {راجع إلى كل القرآن، وإلا لزم ان يكون راجع إلى البعض لئلا يلزم خلاف الإجماع، لكن ليس البعض بذلك أولى من البعض لعدم ما يدل عليه لفظا، ومعنى، والعمل على أي بعض كان يوجب سقوط التكليف بالإتباع ولو بإتباع آية، وهو خلاف الإجماع فثبت بهذه الوجوه أن الضمائر التي قبل الضمير الذي في قوله:} ثم إن علينا بيانه {راجع إلى كل القرآن.
فلو كان المراد من البيان المجمل والعام والمطلق، لزم أن يكون ذلك الضمير عائدا إلى بعض القرآن ضرورة أن كل القرآن ليس بعام مخصوص "ومطلق مقيد"، ومجمل محتاج إلى البيان وضرورة أن بيان الكل] غير [متراخ عنه بخلاف ما إذا حملنا البيان على الإظهار / (297/ب) فإنه حينئذ يمكن أن يعود الضمير إلى الكل إذ إظهار الكل وإشهاره ممكن فثبت أن على تقدير حمل البيان على الإظهار لا يلزم منه تخصيص وعلى تقدير حمله على البيان المختلف فيه يلزم منه تخصيص الضمير، فكان الحمل على الإظهار أولى.
سلمنا: أن الحمل على ما ذكروه أولى، لكن لم لا يجوز أن يكون
المراد منه البيان التفصيلي وتراخيه جائز عند بعض أصحابنا كأبي الحسين البصري.
سلمنا: أن المراد منه مطلق البيان الإجمالي والتفصيلي، لكن الآية تدل على وجوب تأخير البيان، لأن كلمة "علي" للوجوب، لكنه قول لم يقل به أحد، لأن الخصم يقول بجواز التراخي والمقارنة معا، وأما نحن فنقول: بوجوب المقارنة.
فالقول بوجوب التراخي قول لم يقل به أحد، فكان باطلا وحينئذ يتعذر العمل بظاهر الآية، فوجب صرفها إلى المجاز، وليس صرفهم الآية عن ظاهرها يحملهم على جواز التراخي أولى من صرفها إياها عن كونها مقتضية للتراخي بحمل "ثم" على معنى "الواو"، كما في قوله تعالى:} فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون {، وكما في قوله تعالى:} ثم آتينا موسى الكتاب {.
ففي بقاء معنى الوجوب إذ مقارنة البيان مع المبين واجب عندنا في كل الصور وعليهم الترجيح لأنهم المستدلون.
قلت: الجواب عن الأول من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أن البيان في اللغة عبارة عن مجرد الإظهار بل هو عبارة عنه مع إزالة إشكال وإبهام، بدليل الاستعمال وشعور الذهن بذلك عند سماعه، وما ذكرتم من الاستعمال ففيه أيضا معنى إزالة الإبهام والإشكال على ما لا يخفى عليك تقريره، فما فيه الظهور من غير إزالة الإبهام
والإشكال كظهور الألفاظ فلا نسلم أنه يسمى بيانا.
وثانيهما: أنا نسلم أنه في اللغة عبارة عما ذكرتم، لكن نقول: إن البيان إن كل حقيقة في بيان المجمل والعام والمطلق بعرف الشارع، وحمله الشرع وجب حمل البيان المذكور في الآية عليه لما تقدم، من أنه يجب حمل الألفاظ على الحقائق الشرعية أولا، ثم على الحقائق العرفية، ثم على الحقائق اللغوية، وإن لم يكن حقيقة فيه وجب حمله على الحقيقة اللغوية التي هي الإظهار وهو قدر مشترك بين إظهار اللفظ، وبين إظهار المعنى المراد منه، وحينئذ إن قيل بأن المفرد المضاف كالفرد المعرف] بالألف واللام [وهو عام وجب حمله / (298/أ) عليهما وإن لم يقل به فحينئذ، إما أن يحمل على أحدهما على التعيين وهو باطل، لأنه ترجيح من غير مرجح، لأن نسبة اللفظ إليهما على السواء، أو لا يحمل على واحد منهما ما لم يدل عليه دليل من خارج، وهو أيضا باطل، لأنه إجمال وتعطيل للفظ إلى أو أن وجود الدليل، وهو خلاف الأصل أو يحمل على كل واحد منهما بطريق البدلية، كما في المطلق وهذا يقتضي جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب أيضا، وإن حمل البيان المذكور على الإظهار والإشهار، لأن التخيير بين حمل اللفظ على ما يجوز، وبين حمله على ما لا يجوز لا يجوز.
فلما ورد ما يوجب التخيير دل ذلك على جوازه، وبه أيضا يعرف اندفاع ما ذكروه من الأولوية بسبب لزوم محذور التخصيص لو سلم لزومه، لأن ذلك إنما يظهر لو حمل عليه فقط، أما لو حمل عليهما إما معا أو بطريق
البدلية فلا
فإن قلت لو كان البيان محمولا عليهما لزم أن يكون الضمير في قوله تعالى:} ثم إن علينا بيانه {، راجعا إلى كل القرآن وإلى بعضه معا، لأنه من حيث أنه محمول على إظهاره وإشهاره يجب أن يكون راجعا إلى كله ومن حيث أنه محمول على بيان المجمل والعام يجب أن يكون راجعا إلى بعضه كما سبق، لكن ذلك باطل، لأنه جمع بين الحقيقة والمجاز في الإرادة من اللفظ الواحد.
قلت: من جوز منا استعمال اللفظ في معنيين مختلفين فقد سقط عنه هذا الكلام بالكلية، وأما من لم يجوزه فإنه يمنع لزوم أن يكون الضمير عائدا إليها، وهذا لأنه لا يسلم أن البيان من حيث إنه محمول على الإظهار والإشهار يكون الضمير عائدا إلى الكل.
وأما الدليل عليه وكون إظهار الكل ممكنا لا يوجب عوده إليه، بل نقول: هو عائد إلى البعض، وهو البعض الذي يستأنف نزوله عليه، فلم لا يجوز ذلك؟ ثم الذي يدل على صحته هو أن الضمير في قوله تعالى:} لا تحرك به لسانك {عائد إلى ما يتلقاه من القرآن في المستقبل دون ما مضى، لأنه نهى له عنه عن التعجيل في التلقف، وذلك إنما يمكن فيما يستقبل، إذ النهي عن الماضي محال، وإذا كان ذلك الضمير عائدا إلى البعض، وجب أن يكون محل ما بعده من الضمائر راجعا إليه أيضا: لئلا يلزم عود الضمير إلى غير المذكور.
وبهذا يعرف أيضا: عدم لزوم التخصيص على تقدير حمل البيان على البيان المختلف فيه / (298/ب) وبه أيضا: خرج الجواب عما ذكر من الأدلة الدالة على كون الضمائر التي قبل ضمير البيان راجعة إلى كل القرآن، لأن الضمير راجع إلى البعض على التقديرين لما سبق.
ثم الذي يؤكد "أن" الضمير على تقدير أن يكون البيان محمولا على الإظهار والإشهار أيضا راجع إلى البعض دون الكل بمعنى كل جزء منه لا الكل من حيث إنه كل، فإن ذلك باطل وفاقا، هو أن قوله:} ثم إن علينا بيانه {يقتضي أن الإظهار والإشهار ما كان حاصلا لمن يرجع إليه الضمير، لأن تحصيل الحاصل محال، وما تلقفه الرسول عليه السلام من القرآن من قبل كان قد ظهر وبلغ إلى أهل التواتر بحيث تقوم به الحجة، وهو المطلوب من الإظهار، لا أنه يصل إلى كل من في الشرق والغرب فاستحال أن يرجع الضمير إلى الكل بالمعنى المذكور.
لا يقال: المحذور المذكور لازم، أيضا: على تقدير عود الضمير إلى البعض، وهذا لأن تقدير أن يكون المراد من البيان الإظهار كان الضمير راجعا إلى كل ما بقي من القرآن، وبتقدير أن يكون المراد منه البيان المختلف فيه لا يكون راجعا إليه، بل إلى البعض منه لاستحالة أن يكون ما بقي عاما مخصوصا ومطلقا ومجملا فيلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين،
لأن ذلك البعض غير هذا البعض، وبهذا أيضا عرف لزوم التخصيص على تقدير حمل البيان المختلف على البيان المختلف فيه دون تقدير حمله على الإظهار
…
لأنا نقول: نحن نسلم أن ذلك البعض غير هذا البعض، لكن ليس دلالة البعض على كل بعض بطريق الاشتراك أو بطريق الحقيقة والمجاز حتى يلزم ما ذكرتم من استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، بل دلالته على كل بعض بطريق التواطؤ، فجاز أن يطلق.
ويراد به كل ما صدق عليه البعض باعتبار كونه بعضا، لا باعتبار الخصوصية فإن ذلك يجوز.
ألا ترى أنك إذا قلت: البعض من الناس أكرمته وأهنته لا يلزم أن يكون البعض المكرم هو البعض المهان، بل الظاهر أنه غيره، والإلزام التناقض إلا على تأويل، وإذا كان كذلك لم يلزم ما ذكروه من المحذور.
واما التخصيص فلا نسلم لزومه أيضا: على ذلك التقدير، وهذا لأن الضمير الذي في قوله:} ثم إن علينا بيانه {راجع إلى ما ترجع إليه الضمائر التي قبله وإن كان البيان محمولا على البيان المختلف فيه، وكون كل ما بقي من القرآن "ليس" عاما مخصوصا ومجملا ومطلقا ومقيدا لا ينافي ذلك، لأن البيان والتفسير والشرح / (299/أ) مضاف إلى الجملة في عرف الاستعمال، وإن لم يكن فيها ما لا يحتاج إلى التفسير والشرح، يقال:
هذا تفسير القرآن وإن كان فيه ما لا يحتاج إلى التفسير، ويقال هذا شرح الكتاب الفلاني وإن كان فيه ما لا يحتاج إلى الشرح ويقال بين فلان كلام فلان، وإن كان ما بين منه إلا كلمتين، والأصل في الإطلاع الحقيقة.
ولو سلم ابتداء أن الضمير الذي في البيان راجع إلى كل القرآن كان هذا الجواب أيضا.
وأما الجواب: عن الثالث: فهو أن البيان مطلق، وتقييد المطلق خلاف الظاهر، فتقييده بالبين التفصيلي خلاف الظاهر، وما قيل: عليه أنه إذا كان مطلقا لا يمكن حمله على جميع صوره، وإلا لكان عاما لا مطلقا بل غايته أنه إذا عمل به في صورة واحدة فقد وفي بالعمل لدلالته، وعند ذلك فلا يخفى أن تنزيل البيان في الآية على التفصيلي دون الإجمالي أو بالعكس يكون تقييدا للمطلق، وهو ممتنع من غير دليل.
وإن لم يقل: بتنزيله عليه، فلا حجة فيه، ظاهر السقوط، لأن تنزيل المطلق على أحد مجملاته على وجه التخصيص خلاف الأصل، أما تنزيله عليه على وجه الجواز والتخيير فليس ذلك خلاف الأصل، بل هو مقتضاه، فتنزيله على تأخير البيان الإجمالي على وجه الجواز والتخيير ليس خلاف الأصل بل هو مقتضاه وفي ذلك حصول المطلوب، فبطل قوله: إن لم يقل:
بتنزيله عليه فلا حجة فيه، إن أراد به التنزيل على وجه التخصيص، وإن أراد به ما هو أعم منه فلا نسلم أنه يلزم ذلك من امتناع التنزيل عليه وجه التخصيص حتى لا يقول به.
وعن الرابع: أنا نقول: به لأنه تعالى أخبر بأن بيانه عليه بكلمة "ثم" فلو كان كل بيان مقارنا لزم الخلف في خبره تعالى، وهو محال.
سلمنا: عدم وجوبه لكن "فيه" صرف الآية عن الوجوب وحملها على الجواز أولى من صرف "ثم" عن التراخي وحمله على معنى "مع"، فإن بتقدير أن تكون "الواو" للجمع المطلق لم تكن "ثم" محمولا عليه على زعم الخصم وإلا لكان المقصود حاصلا لما سبق أن الدال على القدر المشترك يجوز حمله على ما صدق عليه الاسم، بل يكون محمولا على أحد نوعيه وهو الجمع بطريق المعية وحينئذ يلزم أن يكون ما ذكرنا من المجاز أولى، لأن إطلاق ما يدل على الوجوب وإرادة الجواز منه من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء وإطلاق "ثم" وإرادة معنى "مع" من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء وإطلاق "ثم" وإرادة معنى "مع" من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء وإطلاق "ثم وإرادة معنى مع من قبيل إطلاق / (299/ب) اسم أحد الضدين على " الآخر وقد ثبت في اللغات أن الأول أولى.
وثانيها: قوله تعالى:} آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت {وتفصيل
الآيات إنما هو تبيين معانيها، فيكون تبيين معاني الآيات متأخرا عنها وهو المطلوب، واعلم أن الاستدلال بهذه الآية إنما يتم بعد إثبات أمور ثلاثة:
أحدها: أن تفصيل الآيات إنما هو تبيين معانيها وهو ممنوع ولم لا يجوز أن يكون المراد منه تبيين ما به تصير الآية آية، وهذا هو الظاهر، لأن الآية اسم للألفاظ المتلوة لا للمعاني، فتفصيل الآيات بأن يميز كل واحدة منها عن الأخرى، تبيين مواقفها ومقاطعها، ولو أطلقت الآية عى المعاني حيث أطلقت فإنما هو بطريق التجوز من قبيل إطلاق اسم الدليل وإرادة المدلول، وإذا احتمل أن يكون المدلول الحقيقي مرادا لم يجز المصير إلى المجاز إلا عند قيام دلالة على إرادة المجاز، لكن الأصل عدمه.
وثانيها: أنا وإن سلمنا أن المدلول الحقيقي غير مراد، لكن لا نسلم أن ما ذكروه من المجاز مراد، ولم لا يجوز أن يراد من تفصيل الآيات تفصيلها في الإنزال؟
ويكون المعنى على هذا والله أعلم: أحكمت آياته في اللوح المحفوظ، ثم فصلت في الإنزال، وهذا وإن كان إضمارا، وهو خلاف الأصل، لكن ما ذكروه أيضا كذلك فلم كان ذلك أولى.
وثالثها: أنا وإن سلمنا أن ما ذكروه من المجاز أولى، لكن لا نسلم أنه يحصل منه المطلوب، وهذا لأن مقتضى الآية على هذا أن يكون تبيين معاني الآيات متأخرا عن أحكامها، وليس في ذلك ما يدل على أن تبيين معانيها متأخر عن نزولها فلعل الأحكام قبل الإنزال والتبيين والإنزال معا فحينئذ لا
يحصل المطلوب، ويمكن أن يقال في تقرير إثبات الأول أن قوله} أحكمت آياته {يدل على أنها آية عند الإحكام، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة، فالتفصيل متراخ عنه فلا يجوز أن يحمل قوله:} ثم فصلت {على ما به تصير الآية آية، لئلا يلزم التناقض.
وفي الثاني: إن "قيل" المجاز خير من الإضمار، فالأمر ظاهر وإن لم يقل به، فالحمل على ما ذكرناه من المجاز أيضا أولى، لأنه أكثر فائدة، بخلاف الحمل على الإضمار، فإن مقتضاه معلوم بالضرورة بقرينة الحال.
وأما في تقرير الثالث: فلم يحضرنا ما يعول عليه.
وثالثها: أن من المعلوم بالضرورة / (300/أ) بعد الاستقراء أن ما ورد من النصوص الدالة على الأحكام والأخبار على وجه الإجمال والعموم، لم يبين للرسول، ولا بينه الرسول عليه السلام لنا دفعة واحدة عند نزوله، بل على التدريج على حسب الحاجة، قال الله تعالى:} أقيموا الصلاة {، وقد بينه جبريل صلوات الله عليه للرسول بفعله في يومين في أوقاتها، وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا بفعله، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وقال تعالى:} وآتوا الزكاة {، ثم بينه الرسول بعد ذلك ببيان أصناف ما يجب فيه الزكاة نحو
الأنعام السائمة والذهب والفضة، وأصناف ما لم يجب فيه نحو الخيل والحمير والرقيق، والحلى، على ما هو مذكور في كتاب الصدقات وغيره، ومقدار الذي يجب فيه نحو قوله:"ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، وقدر الواجب نحو قوله:"فيما سقت السماء العشر" الحديث و "هاتوا ربع عشور أموالكم" وعلى من تجب وفي أي وقت تجب
وغير ذلك من أحكامها، كنقلها من بلد إلى بلد فإنه ما بينه إلا حين بعث معاذا إلى اليمن، قال:"خذ من أغنيائهم ورد إلى فقرائهم" إذ لو بينه لاشتهر، وبالجملة يعلم المصنف من نفسه بعد الاستقراء أن الرسول
عليه السلام ما بين كل ذلك عند نزول قوله تعالى:} وآتوا الزكاة {، وكذا أحكام الحج من القرآن والتمتع، والإفراد، وغيرها ما بينها إلا بفعله وقوله بحسب الحاجة، لا عند نزوله قوله:} ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا {.
وكذا أحكام البيع مما ثبت "فيه" من خيار المجلس والشرط وغيرهما من الأحكام، فإنه ما بينه حتى شكى إليه في قضية حبان بن منقذ إذ لو لم يوجد في الأحاديث ما يدل عليه سوى حديث حبان بن منقذ.
وكذا أحكام النكاح، وما يحل وما لا يحل وشرائط صحته كل ذلك ما بين عند نزوله قوله تعالى:} وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم {.
وكذا أحكام الربا فإنه ما بين حكم العرايا إلا حين شكى محاويج الأنصار.
وما بين حكم بيع الرطب بالتمر حتى سئل عنه لا عند نزول قوله:} وحرم الربا {.
وكذا أجكام الإرث، والسرقة، والزنا، والقصاص، فإنه ما بين قوله:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" وقوله: "لا توارث بين ملتين مختلفتين" وقوله: "القاتل لا يرث" و "الرقيق لا يرث ولا يورث"، عند نزول قوله:} يوصيكم الله في أولادكم {الآية.
وكذا ما بين حكم إقرار / (300/ب) الزنا وغيره من الأحكام عند نزول آية الزنا.
وكذا لم يبين قوله: "لا قطع فيما دون ربع دينار" وقوله: "لا قطع من أقل من ثمن المجن"، وموضع القطع وأنه يكرر عليه القطع عند تكرر السرقة وغيرها من الأحكام، نحو بيان الحرز وعدم الشبهة في المال المسروق عند نزول قوله تعالى:} والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {.
وكذا لم يبين قوله: "لا يقتل والد بولده" و"لا يقتل مؤمن كافر" عند نزول قوله:} ولكم في القصاص حياة {، وقوله:} الحر بالحر {الآية.
وكذا ما بين للرسول حكم خصوص قوله:} إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم {، عند نزوله حتى حاججه في ذلك ابن الزبعري على ما يذكر ذلك، وكذا غير ما ذكرنا من العمومات، والمجملات التي يطول ذكرها لم يقترن بيانها، ولا يجد المصنف من نفسه بعد الاستقراء إنكار تراخي البيان عن جميع هذه الصور، وإن كان يمكنه ذلك في بعض الصور، وكيف يمكن أن يقال: إن جميع هذه البيانات كانت مقرنة بتلك العمومات، والمجملات، ولم ينقل أحد من الرواة في واحد منها أنه عليه السلام ذكره عند نزول الآية الفلانية، مع أن من عادتهم نقل مثل ذلك فيما لا يتعلق به غرض، فكيف فيما يتعلق به غرض، ويثبت به الأصل عظيم مرجوع إليه في الأحكام، وهذا مسلك شريف يصلح أن يكون معمولا عليه في إثبات هذا الأصل.
وإن كان كثير منهم لم يذكره فضلا على أن يكون معمولا عليه لهم
وقد احتج في المسألة بوجوه آخر عامة من المعقول: وهي ضعيفة نذكرها، ونذكر وجه ضعفها:
أحدها: أنه يكون لو امتنع تأخير البيان لكان امتناعه، إما لذاته، أو لإفضائه إلى محال، وكل واحد منهما، إما أن يعرف بضرورة، أو بنظر.
ودعوى الضرورة مدفوعة ومعارضها لمثلها، ودعوى النظر أيضا مدفوعة إذ ليس في أدلة الخصم ما يوجب امتناعه لما نجيب عنها والأصل عدم دليل آخر، وإذا انتفى المسلكان ثبت الجواز وهذا دليل استعمله القاضي أبو بكر رحمه الله تعالى في مسائل وعول عليه.
واعترض عليه: أنه لا يلزم من عدم وجدان الدليل عدم الدليل، والتمسك بالأصل ضعيف إذ المسألة علمية، غير آيلة فائدتها إلى العمل إذ لا عمل قبل حضور وقت العمل.
سلمنا: أنه يدل على عدمه، لكن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول / (301/أ) فلا يلزم من عدم دليل الإحالة عدم الإحالة حتى يلزم منه ثبوت الجواز.
وثانيها: أنه لو لم يجز تأخير البيان فإنما لم يجز، لأنه لا يمكن بدونه الامتثال، وهذا المعنى بعينه حاصل في القدرة والآلة، فإنه لا يمكن
الامتثال بدونهما فوجب أن لا يجوز تراخي تحصيلهما عن وقت الخطاب واللازم باطل وفاقا فالملزوم مثله.
وهو أيضا ضعيف لأنا لا نسلم أنه لا يجوز لما ذكروه، بل الظاهر أنه لا يجوز أن يكون لذلك، لأن الامتثال غير مطلوب وقت الخطاب، ولذلك لم يعتبر حصول القدرة وتيسير الآلة فيه فلا يكون إمكانه فيه معتبرا فلا يشترط حصول ما يتوقف عليه بإمكانه، بل إنهما لك يجزا إما لإفضائه إلى التجهيل، أو لكونه تكلما بما لا فائدة فيه ومع وجود الفارق المناسب لا يضاف الحكم إلى المشترك.
وثالثها: أنه لو امتنع تأخير البيان إلى وقت الحاجة لامتنع البيان لكلام طويل وفعل طويل، وامتنع تأخيره بزمان قصير، وإن تبين "حمله" بعد أن يعطف عليها "جملا أخر" لأن كل ما يذكرونه من تجهيل، والتكلم بما لا فائدة فيه حاصل فيه لكن اللوازم ممتنعة وفاقا فالملزوم مثله.
وهو أيضا ضعيف، لأن الخصم إنما يجوز البيان بكلام طويل
وبفعل طويل إذ لم يكن البيان إلا بهما، أو كانت فيه مصلحة ظاهرة، لا تحصل في الكلام القصير والفعل والقصير.
"قلنا". إذا لم يكن كذلك فلا نسلم جوازه وحينئذ لم يكن البيان متأخرا وإن كان متأخرا بزمان يسير "لكن" فيه مصلحة ظاهرة تربو على مفسدة التأخير اليسير، فلا يلزم من امتناع تأخير البيان امتناع البيان بالكلام الطويل والفعل الطويل، وأما تأخيره بزمان قصير بحيث لا يعد انقطاعا عن الكلام الأول فإنما تجوز، لأن ما هو علة المنع في التأخير بالزمان الطويل، وهو التجهيل والتكلم بما لا فائدة فيه غير حاصل في التأخير بالزمان القصير على ما ذكرنا من التفسير، لان السامع لا ينبغي له أن يعتقد ظاهر الكلام قبل تمامه فلا ينبغي له أن يعتقد ظاهر الكلام في ذلك الزمان القصير، لجوزا أن يأتي المتكلم باستثناء، أو شرط، أو يعقبه بصفة تصرفه عن ظاهره، فإن اعتقد ذلك كان "ذلك" تقصيرا منه، وحينئذ لم يكن ذلك القدر من التأخير منشأ للجهل ولا كان التكلم بالمجمل لغوا، لجواز / (301/ب) أن يأتي ببيانه فيه فيكون مع الأول كالكلام الواحد فيخرج عن أن يكون لغوا لخلاف الفصل بالزمان الطويل، لأن ما يأتي بعده ليس معدودا من الكلام الأول، فيكون الأول تجهيلا ولغوا وبه أيضا خرج الجواب عن الأخير، لأن الجمل المعطوف بعضها على بعض تصير كالجملة الواحدة فلم يكن البيان
متأخرا في الحقيقة عن الجملة التي هو بيانها وهذا على رأي من يجعل الاستثناء المذكور عقيب الجمل راجعا إليها بأسرها ظاهرا جدا.
ورابعها: أنه لو لم يجز تأخير البيان فإنما كان ذلك لعدم تبين المكلف المراد من الخطاب، وذلك يقتضي قبح الخطاب الذي لا يتبين المكلف المراد منه إذا تبين له إذ لا فرق في حصول مفسدة عدم التبين بين أن يكون بسبب المخاطب، وبين أن يكون بسبب المخاطب ولهذا يسقط التكليف عن الإنسان سواء قتله غيره أو قتل نفسه، لكنه باطل وفاقا، فكذا ما يقتضيه، لأن ما يقتضي الباطل باطل.
وهو أيضا ضعيف لأن عدم التبين بسبب تأخير البيان منسوب إلى تقصير المخاطب فيناسب أن يؤثر في تقبيح خطابه الذي هو فعله، وأما عدم التبين مع وجود البيان فمنسوب إلى تقصير المخاطب فلا يناسب أن يؤثر في تقبيح الخطاب الذي هو فعل الغير، وأما سقوط التكليف عن الإنسان بسبب القتل فإنما كان ذلك لفقد شرط التكليف، وهو التمكن من الامتثال، ولا يفترق الحال فيه بين أن يكون بفعله أو بفعل غيره.
وأما الدليل الخاص بكل واحدة من تلك الصور، فالذي يدل على جواز تأخير "بيان المخصص وجوه":
أحدها: لما نزل قوله تعالى:} إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون {.
قال عبد الله بن الزبعري لأخصمن محمدا عليه السلام ثم أتاه وقال: أليس أن الملائكة قد عبدت، والمسيح قد عبد أفتراهم حصب جهنم؟ والنبي عليه السلام لم ينكر عليه ذلك وسكت حتى أنزل الله تعالى] بعد [ما شاء الله في بيان ذلك قوله:} إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون {ولو لم يجز تأخير بيان التخصيص لما جاز تأخيره عن وقت الخطاب بالأول.
فإن قلت: لا نسلم أن الآية متناولة للملائكة والمسيح حتى يلزم من تأخير قوله تعالى:} إن الذين سبقت لهم منا {الحسنى (302/أ) الآية عنها تأخير بيان التخصيص، وهذا لأن كلمة "ما" لمن لا يعقل لوجهين:
أحدهما: ما روى أنه عليه السلام قال: لابن الزبعري حين أورد عليه ما أورد "ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن "ما" لما لا يعقل و"من" لما يعقل".
وثانيهما: النقل عن أئمة اللغة أنهم قالوا إن "ما" لما لا يعقل ثم الذي يؤكد أن قوله تعالى:} إنكما وما تعبدون من دون الله {غير متناولهم هو أنه خطاب مع العرب، وهم ما كانوا يعبدون المسيح والملائكة عليهم السلام، يل كانوا يعبدون الأوثان.
سلمنا: التناول لكن المخصص كان حاصلا معها، وهذا لأن التخصيص بدليل العقل جائز، على ما تقدم تقريره، وقد دل العقل هنا على أنه لا يجوز أن تكون الملائكة والمسيح مرادين من الآية، لأن تعذيب أحد بذنب صادر عن غيره لا يجوز وإنما سكت الرسول عنه لو صح أنه سكت، لتأكيد الدليل العقلي بالنقلى، لا يقال: ما ذكرتم من المخصص في حقهما فهو بعينه قائم في حق كل معبود سوى الله تعالى، إذ الذنب صادر من العابدين دونهم فلم يجز تعذيبهم، وهو ترك مقتضى النص بالكلية وتعطيل له فكان
باطلا، لأنا نقول: لا نسلم أنه قائم في حق كل معبود سوى الله تعالى، بل إنما هو قائم في حق معبود يتألم بالتعذيب ولم يكن داعيا لهم إلى عبادة نفسه ولا راضيا بها، فاما من يكن كذلك كالأصنام التي لا تتألم بالإلقاء في النار، وإنما يلقى فيها لتعذيب عابديها لا لتعذيبها، والمعبودين الذين دعوا الناس دعوا الناس إلى عبادة أنفسهم ورضوا بذلك، فليس هو بعينه قائما في حقهم إذ العقل لا يأبى إلقاء الأصنام في النار، لتعذيب المشرك ولا تعذيب من دعا إلى الشرك أو رضي به، وحينئذ لم يلزم الترك بمقتضى الآية بالكلية، بل إنما يلزم تخصيصها لا غير.
سلمنا: عدم المخصص العقلي، لكن المخصص الشرعي كان حاصلا معها وتقريره من وجهين:
أحدهما: أنه ورد في القرآن في مواضع} ولا تزر وازرة وزر أخرى {ومن البعيد أن يقال: إن الكل كان متأخرا عن هذه القضية.
وثانيهما: أنه قد علم بالضرورة من دينه عليه السلام تعظيم الملائكة والمسيح وأنهم من العباد المكرمين، وذلك ينفي أن يكونوا حصب جهنم.
سلمنا: عدمه أيضا: لكن ما ذكرتم خبر واحد، والمسألة علمية، فلا يجوز إثباتها به.
قلت: الدليل على أن الآية متناولة لهم، هو أن المذكور / (302/ب) في الآية كلمة "ما" وهي متناولة للعقلاء وغيرهم، ويدل على وجوه:
أحدها: الاستعمال قال الله تعالى:} وما خلق الذكر والأنثى {،} والسماء وما بناها والأرض وما طحاها {} لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد {وهو دليل الحقيقة، فيكون حقيقة فيه وإلا لزم التخلف وهو خلاف الأصل.
وثانيها: اتفاق أهل العربية على ورود "ما" بمعنى "الذي" وهو متناول للعقلاء وغيرهم وفاقا فكذا "ما".
وثالثها: أن ابن الزبعري كان من الفصحاء والبلغاء وهو فهم دخولهم تحته، فلو لم تكن كلمة "ما" متناولة لهم لما فهم ذلك.
ورابعها: أنه عليه السلام قرره عليه وما رده عليه، ولو لم تكن متناولة لهم لما قرره عليه.
وخامسها: "أنها" لو لم تكن متناولة لمن يعلم لم يكن لقوله:} من دون الله {فائدة، لأنه إنما يحتاج إلى الإخراج حيث يتحقق التناول فأما حيث لم يتحقق ذلك لم يحتج، "إليه" لا يقال: لا نسلم أنه لم يكن له فائدة، بل فائدته التأكيد.
لأنا نقول: التأكيد هو تقوية للمفهوم الأول، وهو غير مقوي للمفهوم
الأول بل يناقضه، لان اللازم من مفهوم قوله:} إنكم وما تعبدون {من حيث إنما لا يتناول من يعلم أن لا يدخل معبود يعلم تحته بناء على أنه بقى على الحكم الأصلي، واللازم من مفهوم قوله:} من دون الله {دخوله غيره تعالى من المعبودين تحته، سواء كان من يعلم أو لا يعلم، لأنه جاري مجرى الاستثناء فيفيد ما ذكرنا، وما يخالف الشيء ويناقضه لا يكون مقويا له، نعم: هو يقوي بعض ما فهم من الأول، لكن على وجه يخالف مقتضاه في الباقي، وذلك لا يسمى تأكيدا.
سلمنا: أنه يصلح أن يكون تأكيدا له حينئذ، لكنه خلاف الأصل، إذ الأصل الحمل على الفائدة التأسيسية.
وسادسها: أنه لو قال: "مالي صدقة" دخل فيه الرقيق وغيره، وكذا لو قال: ما في بطن جاريتي "فهو" حر، صح وعتق عليه ما فيه من الذكر والأنثى، والأصل عدم استفادته من القرينة.
] وأما [قوله في الوجه الأول: روى أنه عليه السلام قال لابن الزبعري: "ما أجهلك بلغة قومك".
"قلنا"/ لم يثبت ذلك وهو الظاهر، إذ لو ثبت ذلك لزم مخالفة الأصل فيما ذكرنا من الاستعمالات، وفي قوله:} من دون الله {، وفي قوله:} إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون {من وجهين / (303/أ) إذ تأكيد التأكيد خلاف الأصل من وجهين.
هذا لو سلم أنهما تأكيدان فإن الأغلب في الكلام تأكيد ما هو المقصود من اللفظ بالدلالة الوضعية، لا تأكيد ما لا يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا بإثبات، وهو باق على حكم الأصل وتكذيب ما أطبق عليه جماهير المفسرين: من أنه عليه السلام ما أمكر عليه، وسكت حتى أنزل الله تعالى قوله:} إن الذين سبقت لهم منا الحسنى {الآية، والإثبات إنما يقدم على النفي لو لم يكن مضبوطا ومستفادا من صدق ثبوتي، أما إذا كان أحدهما فلا، وتخطيئه فهم ابن الزبعري مع أنه كان من الفصحاء والبلغاء.
وقوله: في الوجه الثاني: نقل عن أئمة "العربية" أنهم قالوا: "ما" لما لا يعقل.
قلنا: عن كلهم، أو "عن" بعضهم.
والأول: ممنوع فإن الأكثر منهم على أنها عامة ممن يعقل وغيره.
والثاني: مسلم لكن لا حجة فيه.
قوله: إن العرب ما كانوا يعبدون الملائكة والمسيح.
قلنا: لا نسلم ذلك، وهذا فإن الرواية مشهورة، بأنه كان فيهم من كان يعبد الملائكة والمسيح.
قوله: المخصص العقلي قائم.
قلنا: التخصيص بالعقل وإن كان جائزا، لكن لا نسلم أن المخصص العقلي قائم، وهذا لأن حكمه في هذا المقام غير معتبر عندنا، لأنه لا يحسن ولا يقبح.
سلمنا: اعتباره لكنه متى يحكم بذلك إذا لم يكن ذلك الغير داعيا إلى ذلك لذنب وراضيا به أو مطلقا.
والأول: مسلم.
والثاني: ممنوع، فيجوز أن يتوهم متوهم رضاهم في ذلك فيصح السؤال.
وما قيل: عليه بأن أحدا من] العقلاء [لم يخطر بباله ذلك.
فضعيف جدا، إذا امتناعه ليس ضروريا بحيث لم يخطر ببال أحد.
وكيف يقال ذلك وقد قال تعالى:} وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله {لو كان ذلك مما لم يخطر بالبال لم يكن لهذا القول فائدة.
وأيضا: فإن طائفة من العقلاء يجوزون الكبائر على الأنبياء، ثم منهم من يرى التكفير بذلك.
ومنهم من لم ير ذلك والرضاء بالكفر لا يزيد على الكفر، فكيف
يقال: إنه لم يخطر ببال أحد من العقلاء ذلك؟
وبه خرج الجواب عن المخصص الشرعي أيضا، فإن على تقدير الرضاء بذلك هو معذب بوزر نفسه لا بوزر غيره، وكونهم مكرمين ومعظمين معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام لا ينفي أن يتوهم] متوهم [ذلك فيهم من ليس على الدين أو من هو عليه، لكنه / (303/ب) يعتقده بسبب جريمة صادرة "عنهم" والتكريم إنما هو عند عدمها.
قوله: إنه خبر واحد.
قلنا: لا نسلم، فإن المفسرين اتفقوا عليه وذكروه في سبب نزول هذه الآية وذلك يدل على أنه مقطوع بصحته.
سلمنا: أنه خبر واحد، لكن سبق جوابه فيما سبق من الكلام في الأوامر.
وثانيها: التمسك بقصة نوح عليه السلام فإنه تعالى وعده بأن ينجيه وأهله، وهو كان يظن أن ولده من أهله، وأنه داخل تحت قوله:} وأهلك {ولم يتبين له أنه ليس من أهله حتى قال:} إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق {.
ومن المعلوم أنه ما كان سؤاله عليه السلام متصلا بقوله:} وأهلك {حتى يقال: إن الفصل كان بزمان قصير، وهو] جائز [وفاقا، كما هو في قصة لوط عليه السلام إذ الملائكة صلوات الله عليهم لما قالوا لإبراهيم عليه السلام:} إنا مهلكوا أهل هذه القرية {ولم يبينوا إخراج لوط عليه السلام ومن معه من المؤمنين.
قال: لهم إبراهيم عليه السلام عقيبه:} إن فيها لوطا {فبعد ذلك} قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله {فبذلك سقط الاستدلال بتلك القصة لا بأن البيان كلن مقترنا معه بقولهم:} إن أهلها كانوا ظالمين {.
من حيث إنه لا يدخل تحته إلا من كان ظالما لوجهين:
أحدهما: أنه يلزم] أنه [عليه السلام ما كان تبين ذلك البيان، أو وإن تبينه لكنه أراد التصريح بذلك للتأكيد، وهو بعيد جدا.
ثانيهما: أنه لم يصلح بيانا لنجاته عليه السلام ومن معه من المؤمنين، لأن جزاء عقوبة الظالمين قد تكون بحيث تعمهم وغيرهم قال الله تعالى:
{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة {، وإذا كان كذلك يصلح بيانا لنجاتهم.
لا يقال: إن ما ذكرتم من قصة نوح عليه السلام ليس من قبيل تخصيص العام، لأنه إذا لم يكن ولده من أهله لقوله تعالى:} إنه ليس من أهلك {، "لم يكن قوله وأهلك متناولا له فلم يمكن خروجه عن مقتضاه تخصيصا له، لأنا نقول: ليس معنى قوله:} إنه ليس من أهلك {أنه ليس مما يصدق عليه الاسم من حيث الوضع كما قال: البليد ليس من الحمار بالمعنى المذكور، بل معناه إن شاء الله تعالى أنه ليس من أهلك" في الحقيقة، وإن كان هو في الظاهر معدودا من أهلك، وهذا كما يقال: لمن يشاققك ويخالفك من أولادك: أنه ليس من أولادك، لأن ما هو المطلوب من الشيء إذا لم يكن فيه كان وجوده كعدمه، أو أنه ليس من أهلك الموعودين بالنجاة.
إذ النجاة كانت موعودة للمؤمنين لا غير، وهذا على قراءة من قرأ: (إنه
عمل غير / (304/أ) صالح ظاهر جدا، لأنه يرى أنه كان من أولاده، وإنما هلاكه وعدم نجاته لأجل الكفر، فيكون الاسم صادقا عليه باعتبار ما هو الأمر في نفسه، وباعتبار ما هو في الاعتقاد.
وأما على قراءة من قرأ:} إنه عمل غير صالح {على المصدر، فهو وإن كان يزعم أنه ما كان من أولاده فلا يكون الاسم صادقا عليه بطريق الحقيقة في نفس الأمر، لكنه يعترف أنه صادق عليه باعتبار ما في الاعتقاد وقد ذكرنا أن دلالة الألفاظ على المعاني فإنما هو باعتبار ما هي في الاعتقاد، لا باعتبار ما هي في نفس الأمر، سواء كان ذلك بالنسبة إلى المتكلم، أو بالنسبة إلى السامع، لأن السامع لا يحمل اللفظ إلا على ما يعتقد أنه حقيقة فيه لا على ما هو حقيقة فيه في نفس الأمر، فتحقق عمومه بالنسبة إلى فهمه عليه السلام، فتأخير بيانه تأخير بيان التخصيص.
ولو سلم أنه ليس بعام حينئذ، لكن ما لأجله امتنع تأخير بيان التخصيص، هو كونه منشأ للجهل قائم هنا فإنه إذا اعتقد أنه من أهله وقد وعده بنجاة
أهله، ولم يبين له أنه ليس من أهله كان ذلك منشأ للجهل.
واعلم أن بعض من اشتهى أن يكون أصوليا: فهم وجه التمسك بقصة نوح عليه السلام على نمط آخر، وهو أن قول الله تعالى:} إنه ليس من أهلك {سلب للأهلية، وقوله:} إنه عمل غير صالح {: بيان له، وقد أخره عنه ولهذا اعترض عليه وقال: إنه فاسد إذ لم يثبت أن قوله تعالى:} إنه عمل غير صالح {، قد انفصل عن قوله تعالى:} إنه ليس من أهلك {إلى وقت الحاجة وتجويز الاقتران لا تقوم حجة.
ولا يخفى عليك سخافة ما فهمه وضعف ما تحيله.
وثالثها: أنه تأخر بيان تخصيص قوله تعالى:} وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم {إلى حين شكاية الضعفاء، لأن قوله} ليس على الضعفاء ولا على المرضى {الآية، نزل بعدها، وليس كل ضعيف ومريض يمتنع منه
الجهاد، حتى يقال باستحالة تكليفهم بذلك، لاستحالة تكليف ما لا يطاق. حتى يلزم أن يكون البيان مقارنا، لأن بعض من يصدق عليه الاسم يتأتى منه الجهاد، ويحصل به تكثير السواد ومعاونة للمقاتلين والخروج لهذا الغرض جهاد أيضا، ولهذا يستحق السهم من شهد الوقعة ولم يقاتل.
ورابعها: التمسك بقوله تعالى:} واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه {الآية.
ووجه الاستدلال من وجهين:
أحدهما: أنه/ (304/ب) يقتضي أن خمس جميع الغنيمة مصروف إلى الله والرسول والمذكورين بعد، لكن المراد منه ما وراء السلب، وقد بينه الرسول عليه السلام بعده، وإلا لما كان تقدم إخراج السلب للقاتل على الخمس.
وثانيهما: أنه يقتضى أن حصة ذوي القربى من الخمس مصروف.
لجميعهم ثم بين الرسول بعده أن المراد منه "بنو هاشم" وبنو المطلب، دون بني أمية وبني نوفل بما أنه لم يعطهم من الخمس شيئا وسئل في ذلك فقال:"أنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه".
وخامسها: وهو أنه لو لم يجز تأخير بيان التخصيص "لما جاز تأخير بيان النسخ لأن عدم جواز تأخير بيان التخصيص" إنما كان لأجل أنه منشأ للجهل، إذ المقتضى للعموم إذا كان قائما فلم يرد مقتضاه ولم يبين المكلف ذلك كان ذلك سببا لأن يعتقد المكلف العموم الذي هو غير مراد، وهو جهل، وهذا المعنى بعينه قائم في النسخ، فوجب أن لا يجوز لكن
اللازم باطل بالاتفاق فالملزوم مثله.
فإن قلت: الفرق بينهما من وجوه:
أحدها: أن النسخ عبارة عن الرفع، وارتفاع حكم الخطاب الذي أريد نسخه معلوم لعلمنا بانقطاع التكليف، وليس كذلك العام المخصوص.
وثانيها: أن احتمال النسخ في المستقبل لا يمنع المكلف من العمل في الحال، وأما احتمال التخصيص في الحال فيمنعه من العمل "به"، لأنه لا يدري أنه هل هو مراد من الخطاب أم لا؟
وثالثها: أن تأخير بيان التخصيص مما يوجب الشك في أن كل واحد من أفراد العام، هل هو مراد من الخطاب أم لا؟
بخلاف تأخير بيان النسخ فإنه لا يوجب ذلك، إذ النسخ قبل حضور وقت العمل غير جائز عندنا.
قلت الجواب عن الأول: أنا لا نسلم أن العام المخصوص ليس كذلك وهذا لأن انقطاع حكمه عن المكلف بموته أيضا معلوم كما في
المنسوخ، وكما أن هذا لا يسمى تخصيصا، فكذا ما ذكروه من الارتفاع أيضا لا يسمى نسخا، لأن ارتفاع الحكم بسبب انتفاء الشرط ليس بنسخ، وكما أن ذلك الانقطاع ليس على وجه يوافق التخصيص، إذ الحكم في صورة التخصيص غير ثابت أصلا و] لارتفاع [الانقطاع بسبب الموت إنما هو بعد ثبوته فكذا ارتفاع حكم الخطاب المنسوخ بسبب الموت "ليس" على وجه يوافق النسخ، لأن نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به لا يجوز عند الخصم وموت المكلف قبل حضور وقته جائز وفاقا، فلا فرق بينهما من جهة / (305/أ) ارتفاع الحكم بسبب الموت.
سلمنا: حصول ما ذكروه من الفرق كنه غير قادح، لأن الموجب لعدم جواز تأخير بيان التخصيص وهو أن تأخيره سبب للجهل، لما سبق تقريره: وهذا المعنى بعينه قائم في النسخ، فإن الخطاب المنسوخ يفيد دوام شرعية الحكم في كل الأزمنة، إذ الكلام مفروض فيما إذا كان الخطاب كذلك فإذا خرج عنه ما بعد الموت لاستحالة تكليف الميت بقى ما عداه مندرجا تحته لئلا يلزم الترك بمقتضى الدليل بلا معارض، فلو كان شيء من ذلك الزمان غير مراد من الخطاب مع أنه مقتضى له ولم يبين ذلك لزم الجهل، فلزوم الجهل الذي هو المحذور مع العلم بارتفاع حكم الخطاب عن بعض الأزمنة في المنسوخ،
كما هو مع عدم العلم به عن بعض الأعيان في المخصوص فلا يكون لعدم العلم به مدخل في تقبيح تأخير البيان فلا يكون العلم به سببا لزوال ذلك الاستقباح.
وعن الثاني: أنه إن عنى أن احتمال التخصيص في الحال يمنع المكلف من العمل في الحال فمسلم لكنه ليس وقت العمل حتى يحتاج إلى معرفته، وإن عنى أنه يمنعه منه في وقته فممنوع، وظاهر أنه لا يمنعه فإنه وإن جهله في الحال لكنه يعرفه "في" ثاني الحال، والعجب من القاضي عبد الجبار كيف عول على هذا الفرق ويتبجح به، مع ضعفه جدا.
وعن الثالث: أنا لا نسلم أنه يوجب الشك، وهذا لأن الغالب احتمال الإرادة نظرا إلى المقتضى، والتخصيص إنما هو محتمل احتمالا مرجوحا.
وإن قال: هب أنه لا يوجب الشك، وأنه يوجب الاحتمال المرجوح، كما ذكرتم لكن "تأخير" بيان النسخ لا يوجب ذلك.
قلنا: مسلم وأي شيء يلزم منه ومن أين يناسب هذا قبح تأخير بيان التخصيص دون النسخ.
وإن قال: إن تطرق احتمال الجهل في التخصيص حينئذ يكون أكثر.
قلنا لا نسلم ذلك، بل هما يتساويان في ذلك أو إن احتمال تطرق الجهل في صورة النسخ أكثر، وهذا لأنه أن جوز التخصيص إلى الواحد لزم الأول، لأنه حينئذ يقطع بإرادة واحد من أفراد العام منه كما يقطع بإرادة أول الوقت في المنسوخ غير أن الأولية كما كانت معقولة متميزة في صورة النسخ، ضرورة أنه لا وجود لأجزاء الزمان معا تعين الأول للإرادة، بخلاف صورة التخصيص فإنه لا يتعين فيه فرد من أفراده لعدم الأولوية، والأولية وإن لم تجوز ذلك بل لا بد من إبقاء عدد كثير أو أقل الجمع لزم الأمر الثاني، فإنه لا يجب في صورة النسخ إلا إبقاء الوقت الأول وفي صورة التخصيص يجب إبقاء / (305/ب) العدد الكثير أو أقل الجمع فيكون احتمال تطرق الجهل في صورة النسخ أكثر، هذا إن أراد بقوله: إن تأخير بيان التخصيص يوجب التردد في إرادة كل واحد من أفراد العام بإيجاب التردد على سبيل البدلية وهو الظاهر.
أما إذا أراد إيجابه على المعية منعنا المقدمة وإفسادها حينئذ بين إذ التخصيص إلى حد لا يبقى واحد مندرجا تحت العام غير جائز وفاقا.
واعلم أن هذا الدليل إنما هو حجة على من سلم من المخالفين جواز تأخير بيان النسخ نحو أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد] الجبار [والجماهير منهم.
فأما على رأي أبي الحسين البصري ومن وافقه على أنه لا يجوز تأخير بيان
النسخ أيضاً فلا.
واعلم أيضا: أنه يمكن إيراد هذا الدليل على وجه يتناول كل الصور على ما لا يخفى عليك تقريره، لكن إنما أوردناه في هذه الصورة الخاصة لما بين التخصيص والنسخ من زيادة المناسبة.
وسادسها: أجمعنا على أنه يجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال باللفظ العام وبموت كل واحد منهم قبل حضور أوقاتها، وحينئذ يكون غير مراد من الخطاب لا سيما على أصل الخصم، وفي ذلك شكنا فيمن أريد بالخطاب وهو تخصيص لم يتقدمه بيان.
وهذا كما هو دليل في المسألة فهو نقض "أيضا" لما ذكروه من الفرق الثالث.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن هذه تخصيص، وهذا لأنه يجوز أن يموت كلهم جميعا قبل حضور وقت العمل وفاقا، فلو كان ذلك تخصيصا لما جاز ذلك كما لا يجوز إخراج جميعهم عنه "وفاقا".
وأما الذي "يدل" على جواز تأخير بيان النكرة إذا أريد بها شيء معين فقصة بني إسرائيل فإن الله تعالى أمرهم بذبح بقرة معينة، ولم يبينها لهم حتى سألوا تعيينها سؤالا بعد سؤال.
وإنما قلنا: إنهم أمروا بذبح بقرة معينة لوجوه:
أحدها: أن الضمائر الستة التي في السؤال والجواب وهي:} ما هي {} ما لونها {} ما هي إن البقر تشابه علينا {} إنها بقرة لا فارض {} إنها بقرة صفراء {} إنها بقرة لا ذلول {.
ضمائر ما أمروا بذبحه أولا: لأنها لم لو تكن ضمائره لكانت إما ضمائر القصة والشأن أو غيرها وهما باطلان.
أما الثلاثة التي في السؤال فظاهر أنها ليست ضمائر القصة والشأن، لأنها مع ما صريحه في الطلب، وضمير القصة والشأن ليس فيه معنى الطلب، وأيضا: فإن القصة والشأن غير مذكور بعدها، وما يكون ضمير القصة والشأن فإن القصة والشأن مذكور بعده. قال الله تعالى:{قل هو الله أحد}
{فإنها لا تعمى / (306/أ) الأبصار {} إنه لا يفلح الظالمون {وأمثالها كثيرة، وكذا ليست هي ضمائر غير القصة، لأنه غير مذكور فعودها إليه خلاف الظاهر.
وبهذا أيضا يعرف أنها غير عائدة إلى القصة والشأن، إذ القصة والشأن غير مذكور.
وأما الثلاثة التي في الجواب أيضا: لا يجوز أن تكون كذلك، أما ما يخص أنها لا يجوز أن تكون ضمائر القصة والشأن، فلأنها لو كانت كذلك لزم أن يكون ما بقي بعدها غير مفيد إلا بإضمار إذ لا يتم الكلام بالموصوف والصفة، والإضمار خلاف الأصل، فما يستلزمه أيضا خلاف الأصل.
وأما ما يعمها فلأنه إذا ثبت أن الضمائر التي في السؤال عائدة إلى ما أمروا به أو لا، لزم أن تكون التي في الجواب عائدة إليه لوجوب مطابقة الجواب للسؤال، ولأن القصة والشأن وغيرها غير مذكور، فعودها إليه خلاف الظاهر.
وثانيها: أن الصفات المذكورة في الجواب بعد السؤال الأول، إما أن يقال أنها صفات البقرة التي وجبت أولا، أو صفات بقرة أخرى وجبت بعد ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجبا أولا، لاحتمال أن يقال: أنه يغير مصلحة التكليف بسبب السؤال.
فإن كان الأول: فقد لزم تأخير البيان عن وقت الخطاب ولا يتأتى فيه السؤال المذكور.
وإن كان الثاني: فهو وإن كان خلاف الظاهر لا يستلزمه النسخ لكن المقصود أيضا حاصل على هذا التقدير، وذلك لأن الترديد المذكور بعينه آت فيه، بأن يقال: الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني، إما أن تكون صفات البقرة المذكورة في الجواب عن السؤال الأول: التي بها انتسخت البقرة المذكورة ابتداء، أو صفات بقرة أخرى وجبت بعد السؤال الثاني: لما سبق.
فإن كان الأول: فالصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثالث، إما أن يكون صفات تلك البقرة، أو صفات بقرة أخرى وجبت بعد ذلك السؤال، وانتسخ ما أوجب في الجواب عن السؤال الثاني.
فإن كان الأول: لزم تأخير البيان عن وقت الخطاب.
وإن كان الثاني: لزم أن لا يعتبر جميع الصفات المذكورة في الأجوبة الثلاثة في البقرة المأمور بها، وهو خلاف الإجماع.
وإن كان الثاني: فسواء كانت الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثالث، صفات تلك البقرة أو لم تكن، فإنه يلزم أن لا يعتبر جميع الصفات المذكورة في الأجوبة بأسرها في البقرة المأمور بها، وهو خلاف الإجماع.
وما قيل / (306/ب): بأنه يحتمل أن تكون البقرة المطلقة نسخت بالبقرة المتصفة بالصفات المذكورة أولا: ثم أوجب بعد ذلك اعتبار الصفات المذكورة ثانيا.
فضعيف:
لأنه إن ساغ هذا الاحتمال في بقية الصفات فليسغ في الصفات المذكورة أولا، من غير إلزام نسخ فإنه ليس في اعتبارها إلا إزالة حكم للإطلاق، وهو بعينه حاصل في اعتبار الصفات المذكورة ثانيا وثالثا، فإن البقرة الموصوفة بالصفات المذكور أو "لا" كالمطلقة بالنسبة إلى المذكورة باعتبار الصفات المذكورة ثانيا وثالثا، ولأن ظاهر قولهم:} قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي {و} ما لونها {و} ما هي إن البقر تشابه علينا {وقوله تعالى:} إنها بقرة لا فارض {،} إنها بقرة صفراء {} إنها بقرة لا ذلول {ينفي هذا الاحتمال.
وبهذا يعرف أيضا ضعف هذا الاحتمال بالنسبة إلى كل الصفات كما ذكره الإمام عن الخصم على وجه الاحتمال.
وثالثها: لو كانت البقرة منكرة لما سألوا تعيينها سؤالا بعد سؤال، لأن اللفظ بظاهره يدل على التنكير، والأصل عدم وجوب ما عدا ما دل عليه اللفظ، كيف والتنكير على هذا التقدير عليهم أسهل، إذ كان يجزيهم
على هذا التقدير ذبح أية بقرة كانت، والظاهر من حال الإنسان محبة سهولة التكليف عليه لا سيما في مثل هذا التكليف، فاستقصاؤهم في طلب صفاتها لا يكون عن هوى القلب، بل لكونها كانت معينة وهو المطلوب.
ولقائل أن يقول عليه: إنما ذكرتم يدل على أنهم أشعروا بالتعيين قبل طلب البيان، وإلا لما طلبوا التعيين لكونه خلاف الظاهر كما ذكرتم، وهو إنما يطلب عنه قيام الدليل عليه، فذلك الإشعار إن كان على وجه حصل فيه البيان التام لكنهم إنما لم يتبينوا لبلادتهم فطلبوا زيادة الاستكشاف فقد سقط الاستدلال به بالكلية، وإن كان على وجه لم يحصل فيه ذلك، بل ليس فيه إلا الإشعار بأن المراد منه المعين، فذلك يكون بيانا إجماليا، وحينئذ يسقط الاستدلال به أيضا. على من يقول: بجواز تأخير البيان التفصيلي دون الإجمالي كأبي الحسين البصري وغيره.
ولا يجاب عنه بما أجاب الإمام به: وهو أنه لو كان البيان مقارنا لذكر الله تعالى إزالة التهمة.
لأنه إنما يجب ذلك لو لم يكن عليه دليل، أما إذا كان فلا.
وما ذكرناه دليل عليه، وإذا كان طلب الإشعار بالتعيين متقدما على البيان
لم يمكن الاستدلال بطلب البيان على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لجواز أن يكون مقارنا.
وأما أنه تعالى لم يبينها لهم حتى سألوا سؤالا بعد سؤال، فذلك / (307/أ) ظاهر معلوم من صريح ذكر القصة.
فإن قلت: الآية متروكة الظاهر، لأنها تقتضي جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأن الوقت الذي أمروا فيه بذبح البقرة كانوا محتاجين فيه إلى الذبح، فتأخيره عنه تأخير عن وقت الحاجة، وذلك خلاف الإجماع، وإذا كانت متروكة الظاهر لم يمكن الاستدلال بظاهرها.
سلمنا: أنها ليست متروكة الظاهر، لكن ما ذكرتم معارض بوجوه آخر:
أحدها: أن ظاهر قوله تعالى:} إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة {يدل على أنها كانت منكرة غير معينة، والقول بالتعيين مخالفة لظاهر الآية فكان باطلا.
وثانيها: أنه لو كان المراد منها بقرة معينة، لما استحقوا التعنيف على طلب البيان، بل كانوا استحقوا المدح عليه إذ هو سعي في الامتثال، فلما عنفهم الله تعالى بقوله:} وما كادوا يفعلون {، دل ذلك على أن ما أتوا به ليس سعيا في الامتثال، بل هو تأخر فيه، وذلك إنما يكون لو كانت البقرة منكرة.
وثالثها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لو ذبحوا
أية بقرة أرادوا لأجزت عنهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم".
قلت: الجواب عن الأول من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أنها تقتضي ما ذكرتم، قوله: إنهم كانوا محتاجين إلى الذبح وقت الأمر.
قلنا: احتياجهم إليه لاقتضاء الأمر الذبح في ذلك الوقت أو لغيره نحو اشتهائهم وإرادتهم الفعل في ذلك الوقت.
والأول: ممنوع.
وهذا لأن مطلق الأمر ليس للفور عندنا: حتى يكون الذبح في وقت الأمر مقتضاه.
والثاني: لو سلم فإنه لا يضرنا إذ لا يعتبر في تعيين وقت المأمور به إرادة المأمور.
فإن قلت: هب أن الأمر ليس مقتضاه الفور، لكن لا خلاف في أنه يفيد جواز الفعل عقيبه، فتأخير بيانه عنه تأخير للبيان عن وقت الحاجة.
قلت: إنما يفيد جوازه فيه أن لو كان مبينا وأما إذا كان غير مبين ففعله غير
متصور فيه، فكيف يفيد جوازه فيه؟
سلمنا: ذلك لكن الوقت الذي لا يجوز تأخير البيان عنه هو الوقت الذي "لو" أخر الفعل عنه لفات سواء كان واجبا أو لم يكن وسواء أمكن قضاؤه أو لم يمكن، فأما الوقت الذي يجوز الفعل فيه ولا يفوت بفواته فلا نسلم أنه لا يجوز تأخير البيان عنه.
وثانيهما: أنا لو سلمنا: أن ذلك مقتضاه، لكن نقول: إن ما دل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة دل على جواز تأخيره عن وقت الخطاب قطعا، فإذا ترك مقتضاه بالنسبة إلى جواز التأخير عن وقت الحاجة لدليل / (307/ب) الإجماع، وجب أن يبقى معمولا به بالنسبة إلى جواز التأخير عن وقت الخطاب تعليلا لمخالفة الدليل.
وعن الثاني: أن القول بالتعيين، وإن لزم منه مخالفة ظاهر التنكير لكن القول بالتنكير يلزم منه مخالفة الضمائر الستة، وعدم تصحيح سؤالهم، وعدم صحة قولهم:} إن البقر تشابه علينا {فإن المنكر لا تشابه فيه، مع أنه تعالى ما رد ذلك عليهم، بل قررهم عليه.
وأجاب بقوله:} إنها بقرة لا ذلول {إلى آخر" ومعلوم أن مخالفة ظاهر واحد أولى من مخالفة ظواهر كثيرة.
وعن الثالث: منع أنه تعالى: عنفهم على طلب البيان
أما قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} فليس فيه دلالة على أنهم عنفوا بسبب طلب البيان، بل ليس فيه دلالة إلا على أنهم ما كادوا أن يفعلوا ما أمروا به، فأما أن ذلك في أول الأمر أو بعد استكمال البيان فليس فيه دلالة عليه فيحتمل أن يكون ذلك بعد استكمال البيان.
وعن الرابع: أنا لا نسلم أنه يدل على أن البقرة المأمور بها غير معينة في نفس الأمر، بل ليس فيه دلالة إلا على أنه كان يجزيهم ذبح أي بقرة كانت، ولا يلزم من ذلك أن يكون المأمور به في نفس الأمر ذبح بقرة منكرة، لاحتمال أن تكون معينة في نفس الأمر مع أنه يجزى غيرها، فإن إجزاء الشيء لا يدل على أنه مأمور به في نفس الأمر كصلاة من ظن أنه متطهر، فلا بد من نفي هذا الاحتمال.
سلمنا: دلالته عليه لكنه "خبر واحد" لا يعارض نص الكتاب.
وأما الذي يدل على تأخير بيان الأسماء الشرعية، هو أنه لما أوجب الصلاة لم يرد منها الدعاء إجماعا، ولم يبين ما هو المراد منها في ذلك
الوقت، بل تأخر بيانها إلى أن بين جبريل عليه السلام بفعله، وذلك أن صلى معه عليه السلام في يومين، وكذلك لما نزل قوله تعالى:} وآتوا الزكاة {، فإنه لم يرد منها المسمى اللغوي بالاتفاق، ولم يبين الرسول عليه السلام ما هو المراد منها في جميع أصناف الأموال في ذلك الوقت، وذلك معلوم بالضرورة لا يشككنا في ذلك مشكك "وهذا في" البيان التفصيلي ظاهر.
وأما في البيان الإجمالي فلا يمكن ادعاء العلم الضروري فيه، لكن الأظهر عدمه أيضا بالأصل.
وأما الذي يدل على جواز تأخير "بيان" النسخ وجهان:
أحدهما: الإجماع فإن الأمة متفقة على جوزاه قبل ظهور أبي الحسين البصري ومن وافقه.
فالقول بعدم جواز تأخير بيانه خلاف الإجماع.
وثانيهما: أن كثيرا من أحكام الكتاب والسنة نسخ من غير / (308/أ) أن يقارنه بيان ينسخه بدليل أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه احتج في "نسخ" شيء من الأحكام المتنازع في نسخه بما كان معه من الدليل الدال من الكتاب أو السنة على أنه سينسخ، ولو كان معه ما يدل على أنه سينسخ لامتنع ذهول الكل عنه، فإن تقدير وجود ما يدل على النسخ ولا
يعلمه أحد منهم ممتنع عادة، فغن المعترف بنسخه لو علمه لأظهره، واحتج به على منكره والمنكر لو علمه لما أنكر نسخه فلم يعلمه أحد منهم.
وإذا ثبت جواز تأخير بيان هذا النوع من الخطاب، وهو ما له ظاهر واستعمل في خلافه عن وقت "الخطاب" ثبت جواز تأخير بيان المجمل، لأن القول بجواز التأخير في النوع الأول مع عدم جوازه هنا قول لم يقل به أحد من الأمة، ولأن المحذور في النوع الأول أكثر، ولهذا بعض من قال بعدم جواز التأخير في النوع الأول، قال بجوازه هنا::فإذا جاز التأخير فيه مع كثرة المحذور، فلأن يجوز فيما ليس فيه ذلك المحذور" بطريق الأولى، ولأنه لم ينقل أن ما في القرآن والسنة من المجملات، نحو قوله تعالى:} والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء {وقوله:} والليل إذا عسعس {، وقوله:} وآتوا حقه يوم حصاده {، وقوله:} إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح {بيانات "به" به مقترنة معه، ولو كان ذلك لنقل لا سيما في الواحد وفي الاثنين، بل الذي علم التراخي في البعض كما سبق تقريره.
واحتج المخالف بوجوه:
أحدها: أن الشارع إذا خاطبنا بالخطاب الذي له ظاهر، وهو يريد "غير" ظاهرة فأما منا الإفهام في حالة الخطاب أو لا يريد:
فإن كان الأول: فإما أن يريد إفهام ظاهره، او غير ظاهره.
فإن أراد الأول: فقد أراد منا الجهل.
وإن أراد الثاني: فقد أراد منا من لا سبيل لنا إليه، وكلاهما قبيحان غير جائزين عليه.
وإن كان الثاني: فهو باطل.
أما أولا: فلأنه حينئذ يلزم أن يغرينا على الجهل، لأن كونه مخاطبا لنا يقتضي ظاهرا أن يعتقد أنه أراد به إفهامنا.
وأما ثانيا: فلأنه حينئذ يلزم أن لا يكون مخاطبا لنا، لأن المعقول من كونه مخاطبا لنا أنه قد وجه نحونا الخطاب ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا.
وأما ثالثا: فلأنه حينئذ يكون عبثا إذ الفائدة في الخطاب إنما هو الإفهام.
وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن يقول: ما المانع من أن يقال: إنه أراد منا أن نفهم ظاهره ونعتقده، لكن لا بمعنى أنا نجزم بإرادته أو نظن / (308/ب) أنه إرادة مع تجويز النقيض، كما أجاب به الإمام وغيره عن هذا السؤال.
فإن على هذا التقدير يلزم أن يريد "منا" الظن الكاذب كما أنه يلزم على التقدير الأول، أن يريد منا الجهل بل بمعنى أنه يريد أن يفهم ظاهره، ويعتقد أنه مراده لكن بشرط أن لم يرد المخصص بعده إلى وقت الحاجة، وعلى هذا لا يلزم الجهل ولا الظن الكاذب، فإن الحكم بالشيء مع الشرط ليس حكما به، قبل الشرط لا قطعا ولا ظنا حتى يلزم أحد ما ذكرنا من الأمرين، وهو الجهل، أو الظن الكاذب، بل إنما يكون حكما بأحدهما عند وجود الشرط، فأما قبله فلا ولو غلب على ظنه الحكم به قبل الشرط فإنما يكون ذلك بناء على غلبة الظن بوجود الشرط فيكون آيلا إلى الأول.
وثانيهما: أنا لو سلمنا صحة مقدمات دليلكم، لكنه منقوض بما أنه لا يجوز اعتقاد العموم عند سماع العام قبل التفتيش عن الأدلة المخصصة وفاقا، مع أن جميع ما ذكروه آت، وهذا إنما يكون حجة على من سلم من المخالفين لهذا الحكم نحو أبي الحسين وغيره من المعتزلة، وعلى من يجوز منهم سماع المكلف العام بدون الخاص، فأما من لم يسلم ذلك كأبي الهذيل
والجبائي والصيرفي على ما عرفت مذهبة من قبل فلا.
فأن قلت: الفرق بينهما هو غنما يعلمه المكلف من كثرة السنن والأدلة، كالإشعار بالتخصيص، لأنه يجوز أن يكون فيما معه من الأدلة ما يخص ذلك العام.
قلت: فعلمه بكثرة تخصيصات العمومات كالإشعار به، فإذا كان ذلك التجويز والإشعار مانعين من اعتقاد العموم، كان هذا التجويز والإشعار مانعين من اعتقاد العموم، ومنقوض أيضا بما أنه يجوز تأخير بيان النسخ إجمالا وتفصيلا، وجميع ما ذكروه آت فيه، والفرق المذكور قد مر تزييفه، وهذا إنما يكون حجة على غير أبي الحسين وموافقيه، فأما عليهم فلا.
وأيضا: فإنه منقوض بما أنه يجوز بموت كل واحد من المكلفين قبل حضور وقت العمل به بالمأمور به، وحينئذ لم يكن مرادا من الخطاب وفي ذلك شككنا فيمن أريد بالخطاب وجميع ما ذكروه آت في هذه الصور أيضا.
وثانيها: انه لو جاز أن نخاطب بخطاب ونعني به غير ظاهره ولا يبينه لنا حالة الخطاب لتعذر علينا معرفة وقت العمل المتوقف عليه إيجاب البيان، لأنه
ما من لفظ يصرح به عنه نحو الآن، أو هذه الساعة، أو أول الظهر، إلا ويحمل بأن يكون مراده منه غير ظاهره على وجه التجوز أو على وجه الإضمار، وحينئذ يتعذر علينا معرفة مراده من كلامه/ (309/أ) مطلقا.
أما قبل وقت العمل، فلأنه لا يجب عليه البيان فلا يبينه ولو تبرع وبين، فمحتمل أن يريد به غير ظاهره ولا يبينه النافي تلك الحالة إذ لا يجب عليه البيان إذ ذاك، وكذلك القول في بيان البيان لو تبرع ببيانه.
وأما عند وقت العمل به، فلأنه وإن كان لا يجوز أن نعني بالبيان غير ظاهره، فلا يبينه في الحال وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وانه جائز، ولكن ذلك إنما يكون أن لو علمنا وقت العمل وقد بينا أنه متعذر والمتوقف على المتعذر متعذر فمعرفة المراد متعذرة، وهو باطل بالإجماع.
وإن شئت تقريره بوجه آخر، فقل: لو جاز أن يخاطبنا بما له ظاهر وهو يعني غير ظاهره لتعذر علينا معرفة وقت العمل لما سبق.
وفي ذلك تعطيل النص، لأن إعماله بامتثاله، وامتثاله متوقف على معرفة الوقت ضرورة أنه لا يجوز امتثال ما أمر به قبل وقته، فإذا كان معرفة الوقت متعذرة، كان الامتثال متعذرا ضرورة أن المتوقف على المتعذر متعذر، وهو
باطل إجماعاً.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه يتعذر معرفة وقت العمل حينئذ، قوله: ما من لفظ يصرح به عنه إلا ويحتمل أن يعني به غير ظاهره.
قلنا: لا نسلم ذلك، وهذا لأنه يحتمل أن يبينه بما لا يحتمل التأويل نحو أن يقول: الآن، أو هذه الساعة.
وينفي عنه كل ما عدا المدلول الحقيقي من الاحتمالات قريبا كان أو بعيدا، وهذا وإن كان مشقا لكنه ممكن في الجملة.
سلمنا: ذلك لكن لا نسلم أنه حينئذ يتعذر معرفة كلامه مطلقا، وهذا لأن من الظاهر أنه لا يلزم منه تعذر معرفة المراد من كلامه فيما لا يتعلق بالعمل، بل لو لزم ذلك فإنما يلزم فيما يتعلق بالعمل لا غير.
سلمنا: لزومه مطلقا لكن يتعذر ذلك من حيث اللفظ أو مطلقا.
والأول: مسلم ولا يضرنا ولو سلم انعقاد الإجماع على بطلانه.
والثاني: ممنوع.
وهذا لأنه يجوز أن يعلم المراد لقرائن تحتف باللفظ، وهذا الاحتمال جاري في تعيين وقت العمل وإن لم نذكره ثمة.
سلمنا: دليلكم لكنه منقوض بالنسخ، ولا يخفى عليك ما يحذف من هذا في جواب تقرير الوجه الثاني.
وثالثها: أنه لو جاز أن يخاطب بما له ظاهر وهو يغني عن ظاهره، أو بالمجمل ولا يبينه لنا في الحال، لجاز أن يخاطب العربي بالزنجية ويبينه "له" بعد مدة، ولجاز أن يخاطب النائم والمغشى عليه ويبينه لهما بعد مدة، وان يقصد الإنسان إعلام غيره شيئا بالتصويت والتصفيق ويبينه له/ (309/ب) بعد مدة، لأن الجهل بالمراد حاصل في الكل في الحال، والعلم به حاصل في الكل بعد مدة، بل مخاطبة العربي بالزنجية أولى من مخاطبته بما له ظاهر "وهو يعني غير ظاهر" لأنه ليس للزنجية ظاهر عند العربي يدعوه إلى اعتقاده بخلاف ما له ظاهر وهو يريد منه غير ظاهره، فإن ظاهره يدعو المخاطب إلى اعتقاده وهو جهل.
ولا يفرق بين خطاب العربي بالزنجية، وبين خطابه بالمجمل من غير بيان في الحال: بأنه يعلم في صورة الخطاب بالمجمل أن المراد أحد المعنييين، وأن ما عداهما غير مراد، وهذا القدر مما يراد تعريفه لما سبق في اللغات.
بخلاف الخطاب بالزنجية، فإنه لا يفهم منه شيء، لأن المعتبر في حسن لخطاب إن كان هو الوقوف على المراد بكماله وجب أن لا يحسن الخطاب بالمجمل من غير بيان، وإن كان المعتبر في حسنه الوقوف عليه ولو من بعض الوجوه، وجب أن يحسن مخاطبة العربي بالزنجية، لأن العربي أيضا يعلم أنه يريد به إما الأمر أو النهي أو غيرهما من أنواع الكلام.
وجوابه: منع الملازمة، وهذا لأن الفرق بين مخاطبة العربي بالزنجية، "وبين الصورتين المتنازعتين حاصل، أما بين مخاطبة "العربي" بالزنجية" وبين مخاطبته بما له ظاهر ويعني به غير ظاهره، فلأن الظاهر يشترط عدم ورود التخصيص مفهوم منه من جهة اللفظ، وهو ليس بجهل ولا ظن كاذب، بل هو مطابق لما هو الواقع في نفس الأمر بخلاف مخاطبة العربي بالزنجية، فإنه لا يفهم منه شيء من جهة اللفظ.
وبهذا تعرف أيضا اندفاع ما ذكروه من الأولوية، وأما بينه وبين الخطاب بالمجمل فالفرق المذكور، قوله عليه إنه اعتبر في جنس الخطاب معرفة المراد ولو من بعض الوجوه وجب أن يحسن مخاطبة العربي بالزنجية إذ العربي أيضا يعرف أنه يريد به أحد أنواع الكلام.
قلنا: لا نسلم أنه يعرف ذلك فإن العربي إذا لم يعرف حكمه الزنجي، بل يجوز أن يكون ممن يهدي ويغيث فإنه لا يعرف إذ ذاك أنه يريد بما أتى به من الألفاظ أحد أنواع الكلام، بل لو عرف ذلك فإنما يعرف من حكمته لا من جهة دلالة اللفظ عليه، والمعتبر في حسن الخطاب إنما هو أن يفيد شيئا بالنسبة إلى فهم المخاطب من جهة الوضع أو بواسطته، وهذا حاصل في الخطاب بالمجمل من غير بيان المراد منه عينا، وغير حاصل في الخطاب بالزنجية فلا يلزم من حسنه حسنه / (310/أ).