الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السادسة
في أن تقييد الحكم بعدد مخصوص، هل يدل على نفي ذلك الحكم عن غيره من الإعداد أم لا
؟
اختلفوا فيه: وتحقيق القول فيه يستدعي تفصيلًا، وهو أن غيره من الأعداد إما زائدًا، أو ناقص، وعلى التقديرين الحكم: إما واجب/ (333/أ) أو ندب أو إباحة، أو كراهة، أو حرمة، فيحصل من ضرب هذه الأحكام الخمسة في الاثنين أقسام عشرة.
أحدها وثانيها وثالثها: أن يكون عدد مخصوص واجبًا، أو ندبًا، أو مباحًا، نحو ما وجب الله تعالى علينا جلد الزاني مائة جلدة، أو ندبنا إليه أو إباحة لنا، فهذا يقتضي أن يكون ما زاد على ذلك العدد واجبًا، أو ندبًا أو مباحًا، وكذا "لا يقتضي أيضًا" حرمة، ولا كراهة، نعم: إنه يقتضي عدم وجوب الزائد على مذهب القائلين بالمفهوم: وهو ظاهر غني عن البيان.
ورابعها: أن يكون عدد مخصوص واجبًا، فهذا يقتضي أن يكون ما دونه من العدد واجبًا إن كان داخلًا فيه لا محالة، لأنه لا يمكن الإتيان به دونه وما لا يتأتى الواجب إلا به فهو واجب، وإن لم يكن كذلك فلا.
وخامسها: أن يكون عدد مخصوص ندبًا فهذا يقتضي أن ما دونه من العدد راجح الفعل لا محالة، لكن بالشرط المذكور وإلا فلا. وإنما قلنا إنه يقتضي كونه راجح الفعل ولم يقل إنه يقتضي أن يكون مندوبًا كهو، لأنه محتمل أن يكون [راجح الفعل ولم يقل إنه] واجبًا والحكم بالندبية ينافي الوجوب.
وسادسها: أن يكون عدد مخصوص مباحًا، فهذا يقتضي أن ما دونه من الأعداد جائز الفعل إن كان داخلًا فيه لا محالة، ولا يقتضي إباحته، أو ندبيته، لاحتمال أن يكون واجبًا، لأن من الظاهر أن قول الشارع أبحت لكم أن تجلدوا الزاني مائة وعشرين جلدة، لا ينافي قوله: أوجبت عليكم أن تجلدوه مائة جلدة، ولو كان مقتضيًا للإباحة، لكان منافيًا له وهو التقرير بعينه في الندب وإن لم نذكر ثمة، وإن لم يكن داخلًا فيه على الشرط المذكور فسواء كان داخلًا تحته مرة دون أخرى أو لم يدخل تحته أصلًا، فإنه لا يدل على جواز فعلهما، لأنه لا يتوقف فعل المباح عليهما كما توقف ما هو داخل تحته لا محالة.
وسابعها وثامنها: أن يكون حكم عدد مخصوص الكراهة، أو الحضر
فهذا يقتضي أن ما زاد عليه أولى بالكراهة، والحظر، نحو ما إذا حظر الشارع جلد الزاني مائة وعشرين، فهذا يقتضي أن مائة وأربعين أولى أن يكون محظورًا، وكذا قوله عليه السلام:"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا" يدل على أن ما زاد على القلتين لم يحمل الخبث بطريق الأولى.
أما إذا نص على عدد مخصوص، بأنه غير مستلزم لكذا، أو لا يترتب عليه كذا، نحو قوله تعالى:{إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله/ (333/ب) لهم} فهذا "هل" يتقتضي أن ما زاد عليه على خلافه أم لا؟.
اختلفوا فيه فالقائلون بالمفهوم: ذهبوا إليه، وأنكره الباقون وهو صورة من صور مفهوم العدد المختلف فيه.
وتاسعها وعاشرها: أن يكون حكم عدد مخصوص الكراهة، أو الحظر فهل يقتضي هذا أن يكون حكم ما دونه على خلافه أم لا؟
اختلفوا فيه أيضًا فالقائلون بالمفهوم: ذهبوا إليه. وأنكره الباقون. وعلى هذا الخلاف أيضًا حكم النفي نحو قول القائل: "القلتان لا تحملان الخبث" فإن مفهومه عند القائلين به، إن ما دونهما يحمل الخبث.
احتج القائلون بمفهوم العدد بوجوه:
أحدها: "ما" روي أنه لما نزل قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} قال عليه السلام: "والله لأزيدن على السبعين"
فعقل عليه السلام أن الحكم منفي عن الزيادة وإلا لم يكن للزيادة فائدة
وأجيب عنه بوجوه:
أحدها: أنه خبر واحد فبتقدير صحته لا نسلم أنه تقوم الحجة في إثبات اللغة، كيف وإن الأظهر أنه غير صحيح، وذلك لأنه عليه السلام أعرف
الخلق بمعاني كلام الله تعالى، وذكر السبعين في الآية ما جرى إلا لقطع الطمع في الغفران ومبالغة في اليأس عنه، على ما عرفت ذلك من عادة العرب في أن التقييد بالسبعين في الأكثر إنما هو للتكثير والمبالغة في العدد، لا أن خصوصية السبعين مراده.
ولقائل: أن يقول: "إن" هذا لا يدل على عدم صحة الحديث، لاحتمال أن يقال: إنه عليه السلام قال ما قال: لغرض آخر غير حصول المغفرة، نحو: استمالة قلوب الأحياء منهم، وترغيبهم في الإسلام، إذ ليس في الحديث ما يدل على أنه إنما قال: ما قال: رجا لحصول المغفرة، وإذا أمكن أن يكون غرضه شيئًا آخر غير حصول المغفرة، لم يكن ما ذكروه فادحًا في صحة الحديث، كيف وإنه في الصحيح المتفق على صحته.
وثانيها: وهو ما ذكره الإمام: وهو أن تقييد الحكم بالسبعين، كما لا ينفيه عن الزائد، فكذا لا يوجبه، فلعله عليه السلام جوز حصول المغفرة فيما زاد على السبعين، كما كان قبل التقييد. وهو أيضًا ضعيف:
لما سبق من أنه عليه السلام أعرف الخلق بمعاني كلام الله تعالى، وأن
التقييد بالسبعين إنما جرى لقطع الطمع عن حصول المغفرة لا لتخصيص الحكم به، وهو كقول القائل: إشفع أو لا تشفع إن شفعت سبعين مرة لا أقبل شفاعتك، فإنه لا يفهم منه إلا سد باب "قبول" الشفاعة لا غير، ويؤكده قوله تعالى:{سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} وقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر/ (334/أ) ما دون ذلك لمن يشاء} .
وثالثها: وهو الأولى أنه عليه السلام إنما قال: ما قال: لاستمالة قلوب الأحياء منهم، ولترغيبهم في الإسلام بسبب شدة اهتمامه في تحصيل المغفرة لهم مع المبالغة في اليأس وقطع الطمع لا لأنه عليه السلام عقل أن حكم السبعين فنفي عما هو زائد على السبعين.
ورابعها: وهو أيضًا جيد وهو أنه إن لم يصح عنه عليه السلام ما ذكروه فقط سقط الاستدلال بالكلية، وإن صح فنقول: إنه مؤول والتقدير والله لأزيدن على السبعين لو علمت أن الزيادة تنفع. وهذا وإن كان خلاف الأصل، لكن يجب المصير إليه لما سبق، ولما روى أنه عليه السلام قال
عند ذلك "لو كنت أعلم أن الزيادة تنفع لزدت".
وثانيها: قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} . جعل مخصصا لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} قاله: بعد ذكر المحرمات، إذا الأصل عدم دليل آخر، وكذلك قوله تعالى:{فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} جعل مخصصًا لقوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} . إذ الأصل عدم دليل آخر.
وكذلك خصص قوله عليه السلام: "في الغنم صدقتها" بمفهوم قوله عليه السلام: "في أربعين من الغنم السائمة شاة" إذ الأصل عدم دليل آخر.
وجوابه: منع التخصيص بما ذكروه من مفهوم العدد، بل خصص ما ذكروه من النصوص بالإجماع، وظهور مستند الإجماع غير لازم لو سلم أنه لابد له من مستند، فإن من يجوز انعقاد الإجماع عن بحث ومصادفة يمنع منه، كيف وأنه مستنده ظاهر على ما لا يخفى ذلك على المحصل.
وثالثها: أن الأمة عقلت من تحديد حد القاذف ثمانين نفي وجوب
الزيادة، وكذلك عقل ابن عباس رضي الله عنهما من قوله تعالى:{إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} المنع من الرد، ولذلك احتج بالآية على عدم جواز الرد وقال: إن إثبات النصف لها يدل على أنها لا تزاد على ذلك، وتعقله وفهمه حجة.
وجوابه: منع أن الأمة عقلت ذلك من الآية، بل لم يعقلوا من الآية إلا إيجاب الثمانين، وأما نفي الزيادة فبالبراءة الأصلية، وعن الثاني: أنه لو صح عنه ما ذكروه، فلا نسلم أنه بناء على مفهوم العدد، بل لأن الله تعالى بين مالها عند عدم الولد عند الحاجة، فلو كان لها شيء/ (334/ب) آخر لبينه، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وإنه غير جائز.