الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن القتل العمد وإن كان أولى بذلك ضرورة أنه أجدر بالتغليظ والمؤاخذة، كما هو رأي أصحابنا، لكن إنما يكون لو ثبت أن الكفارة إنما وجبت على الخاطئ على وجه التغليظ والمؤاخذة، وهو ممنوع، وهذا لأنه يحتمل أن يكون وجوبها عليه إنما هو على وجه النظر له من حيث إنه شرع له ما يكفر ذنبه الحاصل له بسبب تقصيره وترك تحفظه، وجناية المتعمد فوق جناية الخاطئ، ولا يلزم من كون الكفارة رافعة لإثمه أدنى الجنايتين أن تكون رافعة لإثم أعلاهما/ (322/أ).
وهذا القسم مما اختلف في حجيته، كما في مفهوم المخالفة.
وأما مفهوم المخالفة: فهو الذي دل اللفظ من جهة المعنى على أن حكمه مخالف لحكم المنطوق نحو قوله عليه السلام: "زكوا عن سائمة الغنم"، فإنه يدل على نفي الزكاة عن المعلوفات عند من يقول به، ويسمى "بدليل الخطاب" أيضا وهي أصناف يأتي ذكرها في مسائل.
المسألة الثانية
في أن دلالة النص على الحكم في مفهوم الموافقة. هل هي لفظية، أم قياسية
؟.
فذهب الجماهير من أصحابنا، وبعض الحنفية: إلى أنها قياسية.
وذهب الآخرون من الفريقين: إلى أنها لفظية. إما لزعمهم أن صيغ التنبيه بالأدنى على الأعلى موضوعة في أصل الوضع للمجموع، المركب من الأمرين وهو ثبوت الحكم في ذلك الأدنى الذي هو مذكور وتأكيد ثبوته في الأعلى المسكوت عنه، أو لزعمهم أنها في أصل الوضع، وإن كانت موضوعة لثبوت الحكم في المذكور لا غير، لكن العرف الطارئ نقلها عنها إلى ثبوت الحكم المذكور في الصورة المذكورة وفي الصورة المسكوت عنها.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن المنع من التأفيف مثلا، لو دل على المنع من الضرب والشتم لفظا، لدل عليه، إما بحسب الوضع اللغوي، أو بحسب الوضع العرفي، والأمران باطلان، فبطل القول بدلالته لفظا.
أما الأول: فلأن التأفيف غير الضرب، وليس هو جزء منه، وهو
معلوم قطعاً، فالمنع منه لا يكون منعا من الضرب لا بطريق المطابقة، ولا بطريق التضمن.
وأما الثاني: وهو كما يقال: إن المنع من التأفيف نقل إلى المنع من جميع أنواع الأذى، فهو أيضا باطل، لأن النقل خلاف الأصل، وإن الأصل هو التقرير على الوضع الأول، فلا يصار إليه إلا عند قيام الدلالة عليه.
وثانيها: أن دلالته عليه لو كانت لفظية، لما توقفت معرفتها على] معرفة سياق الكلام [ومقاصده، لان معرفة المقاصد "المعتبرة بالعبارة" تتوقف على معرفة دلالة العبارة عليها، فلو توقفت معرفة دلالة العبارة عليا لزم الدور وهو ممتنع، لكنها تتوقف كما تقدم فليس إذن دلالته لفظية.
وثالثها: لو كان النهي عن التأفيف نهيا عن الضرب والقتل لفظا] لما حسن [النهي عنه مع الأمر بالقتل، كما لا يحسن الأمر بالقتل مع النهي عنه لكنه قد يحسن كما تقدم فهو إذا ليس نهيا عنه لفظا.
واحتج الآخرون بوجوه:
أحدها: لو كان الحكم فيه ثابتا بطريق القياس لوجب، أن لا يقول: به من لا يقول: بالقياس ضرورة أنه لا قائل بطريق حكمه، لكنه ليس كذلك/ (323/أ) بل قال به كلهم، أو أكثرهم، فإذا ليس طريق ثبوت الحكم فيه القياس.
وثانيها: أنه لو كان طريق ثبوته القياس، لوجب أن لا يعلم العاقل حرمة ضرب الوالدين من حرمة تأفيفهما إعظاما لهما عندما يمنعه الشارع عن القياس لكنه ليس كذلك وفاقا.
وأجيب عنهما: بأن القياس فيه يقيني والخلاف إنما هو في الظنى لا غير فلم يكن ذلك الخلاف قادحا فيه، والمنع إنما يتصور عن القياس الظنى دون اليقيني فلم يكن ذلك المنع مانعا من العلم به، ولو فرض الكلام في المنع عن القياس اليقيني فعند ذلك لا نسلم نفي اللازم، وهو وإن كان محالا لكن المنع عن القياس اليقيني أيضا محال، والمحال جاز أن يستلزم المحال.
وثالثها: إنما هو الأصل في القياس غير مندرج تحت الفرع، ولا هو جزء منه وفاقا، وما هو الأصل عند الخصم في هذا النوع من الاستدلال قد يكون جزءا لما هو الفرع عنده، وذلك في مثل: قوله تعالى:} فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره {.
فإن هذا يفيد أن ما زاد على الذرة أيضا: يره لو عمله والذرة جزء لما هو أكثر منها مندرجة تحته، ونظيره أيضا: قول القائل: فلان لا يملك حبه، ولا يشرب لفلان جرعة، ولا يأكل لقمة خبز، فإن كل هذا يفيد نفي ما فوقه.
وجوابه: أنا لا نسلم أن دلالة نفي الحبة لنفي ما فوقها من قبيل الفحوى، بل من قبيل الاقتضاء، ضرورة أن صدق نفي الحبة يتوقف على نفي ما فوقها،
إذ لو وجد ما فوق الحبة لوجدت الحبة، وحينئذ لا يصدق نفي الحبة.
ورابعها: أنه لا يشترط في القياس أن يكون المعنى المناسب الموجب للحكم في الفرع أشد مناسبة له من حكم الأصل إجماعا، وهذا النوع من الاستدلال يشترط فيه ذلك فلا يكون قياسا.
وجوابه: منع الإجماع، والعجب أن من تمسك به كيف تمسك وكلام الغزالي صريح في عدم اشتراط ما ذكره، كما تقدم نقله.
وخامسها: وهو المعول عليه في إبطال كون دلالة الفحوى قياسية.
إن في صورة الفحوى قد يكون حكم المسكوت عنه أسبق إلى الذهن من حكم المنطوق به عند سماعه، وفهم حكم الفرع في القياس عند سماع حكم الأصل، إما متأخرا عنه أو هو معه لا غير فلا يكون الحكم المثبت بالفحوى قياسا.
والحق أن دلالة الفحوى،] لفظية لكن لا بحسب الوضع الأصلي، ولا العرفي، بل بواسطة القرائن كما تقدم بيانه، أن تحريم التأفيف لا يستلزم تحريم الضرب والقتل مطلقا، بل [بواسطة سياق الكلام / (323/أ) ومقصده.
وعند هذا ظهر سقوط أدلة القائلين بالقياس.
أما الأول: فلأنه لا يلزم من إبطال الدلالة اللفظية] الوضعية أصلية كانت أو عرفية إبطال مطلق الدلالة اللفظية حتى يلزم منه [أن تكون دلالته قياسية.
وأما الثاني: فلأن معرفة سياق الكلام ومقاصده لا يتوقف على معرفة الفحوى، حتى يلزم من توقف معرفة الفحوى على معرفة السياق والمقاصد الدور، بل قد يعرف ذلك من سياق الكلام وسياقه.
وأما الثالث: فهو أن النهي عن التأفيف مع الأمر بالقتل إنما يحسن حيث لا قرينة على تحريم القتل، أما أذا كان معه] قرينه [تحريمه فلا، ونحن ما أدعينا دلالته] لفظا [إلا عند القرينة، فليس هو مناف للدلالة] اللفظية [على ما ذكرنا من التفسير.