الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في المبين وما يتعلق به
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
[جواز كون الفعل بيانا]
ذهب جماهير الأصوليين والفقهاء بأسرهم إلى أن الفعل قد يكون بيانا، ثم لا يظن أن من قال منهم كالغزالي وغيره أن البيان مخصوص بالدليل القولي، لم "يقل" بكون الفعل بيانا، لأن ذلك نزاع في التسمية بحسب الاصطلاح بسبب غلبة الاستعمال/ (293/أ) بناء على أن الغالب إنما هو البيان بالقول لا في حقيقة ما يقع به البيان ولا في جوازه.
وذهب بعض المتأخرين الشاذين "إلى" أن البيان لا يقع بالفعل.
لنا: المنقول، والمعقول:
أما المنقول: فما روى أنه عيه السلام بين للصحابة كيفية الصلاة والحج بفعله وقال: "خذوا عني مناسككم". وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وروى أن رجلا سأله عن أوقات الصلاة، فقال عليه السلام:"صل معنا"، مبين له بفعله، بأن أقامها في أوقاتها، وكذلك بين الوضوء أيضا بفعله إذ روى أنه عليه السلام: توضأ مرة مرة فقال: "هذا وضوء لا يتقبل الله صلاة] امرئ [بدونه"، وتوضأ مرتين فقال: "هذا
وضوء ضاعف الله فيه الأجر" وتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال: "هذا وضوئي
ووضوء الأنبياء من قبلي"، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم ببنوا الوضوء بأفعالهم.
وأما المعقول فهو: أن القول حيث يكون بيانا للفعل إنما كان بيانا له لكونه مرشدا إلى كيفية ذلك الفعل، وهذا المعنى متحقق في الفعل بل هو أكثر إرشادا منه، لأنه قد يرشد إلى دقائق تقصر عنها العبارة وأشد ترسيخا للكيفية في الخاطر، ألا ترى أن فهم الأشكال الهندسية عند مشاهدتها، أشد من حال الإخبار عنها، ولهذا قيل:"ليس الخبر كالعيان" فيلزم بطريق
الأولى أن يكون الفعل بياناً.
احتجوا بوجوه:
أحدها: أن البيان يجب أن يكون متعلقا بالمبين، ليعلم أنه بيان له، والفعل لا ينبئ عن التعليق به، فلم يعلم أنه بيان له، فلم يصح أن يقع به البيان.
وجوابه: أنا نسلم أن الفعل لا ينبئ عن التعلق بالمبين، وأن البيان يجب أن يكون متعلقا بالمبين، لكن لا نسلم أنه لا يعلم كونه بيانا له، وهذا لأنه لا يلزم من عدم إثباته ذلك أن لا يعلم، لجواز أن يعلم ذلك بطريق آخر، نحو أن بعلم بصريح القول: بأن يقول: هذا الفعل بيان لهذا المجمل أو بقرائن الأحوال أو بالفعل نحو أن يتلفظ بالمجمل، ولم يأت بشيء يصلح أن يكون بيانا له، ثم إنه فعل ما يصلح أن يكون بيانا له عند حضور وقت عمله فيعلم أنه بيان له، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت العمل، وهو غير جائز وفاقا ولا يقال أن البيان في الحقيقة حينئذ إنما يقع بتلك الأشياء لا بالفعل، لأن المتضمن / (293/ب) لصفة مدلول المجمل، وكيفية أفعاله، إنما هو الفعل لا تلك الأشياء، وهي إنما تدل على أنه وقع بيانا له لا على صفاته، وليس فيها دلالة على إزالة الإيهام أصلا فكيف، يقال: أن البيان في الحقيقة إنما وقع بتلك الأشياء.
وثانيها: أن الفعل يطول فيفضي إلى تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وجوابه: أن القول أيضا يطول، بل ربما كان أطول منه، فإن زمان
الإتيان بركعة واحدة أقصر من زمان وصف أفعالها وتركها على الاستقصاء، إذ ليس من شرط البيان القولي أن يكون وجيزا، بل يجوز أن يكون طويلا مع القدرة على الوجيز، فما جوابكم ثمة فهو جوابنا.
وثالثها: أن البيان يجب أن يكون متصلا بالمبين، واتصال الفعل مع القول غير متصور، فلا يصح به البيان.
وجوابه: أنه ممنوع على رأينا لأنا نجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
سلمنا: ذلك لكن لا يوجب الاتصال الحقيقي على هذا التقدير، بل الاتصال العرفي والعادي] وذلك متصور بأن يشرع في الفعل عقيب تلفظه بالمجمل بل لو صبر لحظة يسيرة ثم [شرع في الفعل جاز أيضا، كما هو في القول، فالبيان يجب أن يكون متصلا أو في حكم الاتصال، والثاني متصور في الفعل فلم يمتنع كونه بيانا، ولو قيل بأنه يطول بعد الشروع، فإذا انضم هذا مع ما قبل الشروع من الفصل لزم تأخيره عن وقت خطابه.
فجوابه: ما سبق.
تنبيه: إذا علمت أن البيان يقع بالفعل، فاعلم أنه يقع بالترك أيضا، إذ لا قائل بالفصل بينهما، لكن الفعل يبين صفة الفعل، والترك لا يبين ذلك بل لا يبين إلا ما يناسبه من الأحكام العدمية وهو على أنواع:
أحدها: عدم الوجوب فإن الرسول عليه السلام إذا داوم على فعل نحو القنوت في الفجر، أو الجلسة الأولى، ثم تركه متعمدا فإن تركه ذلك متعمدا يدل على عدم وجوبه، إذ لا يجوز أن يكون النبي عليه السلام يتعمد ترك الواجب.
وثانيها: أن يسكت عن بيان حكم حادثة وقعت بين يديه، أو سئل عنها فإنه يدل على أنه ليس فيها حكم شرعي، وإلا لزم تأخير البيان عن
وقت الحاجة وأنه غير جائز.
وثالثها: أن يترك ابتداء ما يوجبه اللفظ العام المتناول له ولأمته، فإنه يدل على أنه عليه السلام مخصوص منه.
ورابعها: أن يتركه بعد ما فعله، فإنه يدل على نسخ ذلك الحكم في حقه، وفي حق الأمة أيضا: عن كانوا مشاركين له في علة الحكم وإلا فلا.
وخامسها: أن يترك الإنكار على فعل فُعل بين يديه أو إن / (294/أ) لم يكن بين يديه، لكن علم ذلك ولم يتقدم له ببيان في كتاب الله تعالى، ولا في سنته عليه السلام، فإنه يدل على أنه ليس بقبيح.
وأما البيان بالفعل: فيقع تارة بالكتابة- والبيان بها متصور من الله تعالى، ومن الرسول عليه السلام، ومرة بعقد الأصابع كما بين الرسول عليه السلام الشهر به حيث قال: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا وحبس إبهامه
في الثالثة"، فبين به أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما، وهذا النوع من البيان مستحيل على الله، لاستحالة أن يكون له أصابع وجوارح.
وطورًا بالإشارة وقد بين بها الرسول عليه السلام حيث أشار إلى الذهب والحرير، وقال:"هذان محرمان على ذكور أمتي حل لإناثها".