الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة
من التأويلات البعيدة، تأويل يقتضي حمل كلام الله تعالى، أو كلام رسوله على شواذ اللغة والإعراب ونوادرهما
مثاله: القائلون بوجوب مسح الرجلين عينا كالشيعة، وعلى التخيير بينه وبين غسلهما كالحسن البصري، وعلى الجمع بينه وبين الغسل كداوود الظاهري.
لما تمسكوا بقوله تعالى:} وأرجلكم إلى الكعبين {على قراءة الكسر على وجوب مسح الرجلين، فإن ظاهره يقتضي وجوب مسحهما، لكونه
معطوفاً على قوله:} وامسحوا برؤوسكم {ولكون ظاهر العطف يقتضي مشاركة المعطوف للمعطوف عليه فيما عطف عليه.
قال بعض القائلين بوجوب غسل الرجلين أن الاستدلال المذكور إنما يتم لو كان} وأرجلكم {معطوفا على قوله:} وامسحوا برؤوسكم {وهو ممنوع ل هو عندنا معطوف على قوله:} فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق {بدليل أنه قدر الحكم في المعطوف إلى الكعبين كما قدر في المعطوف عليه إلى المرافق، ولو كان معطوفا على قوله:} وامسحوا برؤوسكم {لما كان مقدرا كما هو في المعطوف عليه.
وأما الكسر فإنما هو على الجوار، فإن المجاورة تقتضي الاستتباع.
كما في قولهم: جحر ضب خرب، وكما في قول امرئ القيس:
كأن ثبيرا في عرانين وبله
…
كبير أناس في بجاد مزمل
كسر قوله: مزمل، مع أنه من حقه أن يكون مرفوعا، لكونه صفة: كبير أناس، وإنما كسره على الجوار إذ ليس ثم ما يوجب الكسر سواه"
وهو ضعيف جدا. أما ما ذكره من الدلالة، فلأنه لا يجب التسوية بين المعطوف والمعطوف عليه في كل شيء، حتى يلزم من كون مسح الرأس غير مقدر أن يكون مسح الرجلين أيضا غير مقدر على تقدير أن يكون معطوفا عليه.
سلمنا: ذلك لكنه منقوض بقوله:} وأيديكم إلى المرافق {فإنه معطوف على قوله:} فاغسلوا وجوهكم {وفاقا، مع أنه غير مقدر.
وأما ما ذكروه من سبب الكسر فهو أيضا ضعيف جدا، لأن الاستتباع لسبب المجاورة من شواذ اللغة، ونوادر الإعراب، التي لا يعدل بها عن مواردها المسموعة إلا لضرورة الشعر.
وبتقدير أن يجوز ذلك فإنما يجوز فيما ليس فيه لبس، كما في قولهم: جحر ضب خرب، لأن من المعلوم أن الخرب، ليس صفة الضب.
فأما ما فيه لبس] نحو [ما نحن فيه فلا.
وشعر امرئ القيس لا نسلم أنه من هذا الباب، وهذا لأنه إنما يكون
من هذا الباب لو كان كسرة/ (320/أ) مزمل، لأجل كسرة: بجاد، وهو ممنوع، بل كسرته لأجل محافظة القوافي وموافقة الأبيات، وليس هو من الاستتباع بسبب الجوار في شيء، لأن ما يكون من هذا الجنس يجب أن لا يكون بين المستتبع وبين التابع فصل كما هو في قولهم: جحر ضب خرب، ونظائره.
ولهذا أيضا يعرف أنه وإن لم يكن الاستتباع بسبب الجوار من ضعيف اللغة.
والإعراب لم يجز أيضا حمل كسرة قوله:} وأرجلكم {عليه لتخلل واو العطف بينه بين "قوله"} وامسحوا برؤوسكم {.
فإن قلت: فما وجه مذهب الجماهير القائلين بوجوب الغسل فيه على تقدير قراءة الكسر] فإنها [صحت في السبع كقراءة النصب، والتعارض بين القطعيين غير جائز حتى يصار إلى ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، أو يقال: إن القراءتين تتعارضان وتتساقطان، ويجب الرجوع في ذلك إلى السنة، بل لا بد من تأويل أحدهما.
قلت: الوجه فيه أن يقال: إن قوله:} وأرجلكم {معطوف على قوله:} وامسحوا برؤوسكم {، وظاهر هذا وإن اقتضى وجوب مسح الرجلين لأن ظاهر العطف يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما عطف عليه وهو
إنما عطف على الرأس في المسح لا في غيره إذ تقدير أمر آخر خلاف الأصل، لكن ما ثبت من النقل الصحيح عن الرسول عليه السلام أنه غسل الرجلين حين بين الوضوء، وعدم نقل مسح الرجلين عنه مع أن الظاهر أنه لو مسح لنقل، وإجماع الصحابة والتابعين، على غسلهما قبل ظهور المخالف، أوجب صرفه عن ظاهره، وحمله على أنه معطوف على ما دل عليه المسح من المعنى المشترك بينه وبين الغسل، وهو إمساس العضو بالماء.
فعلى هذا ليس في الآية دلالة على وجوب مسحهما ولا على وجوب غسلهما، وإنما ثبت الغسل بقراءة النصب أو بالسنة أو بالإجماع وإنما المقصود دفع دلالته على المسح لا غير.
وهذا النوع من العطف في كلامهم ليس ببدع ولا ضعيف، بل هو كثير معدود من الفصاحة والبلاغة.
قال سيبويه: الكلام الجزل الفصيح، يسترسل في الأحايين استرسالا، ولا تختلف مبانيه لأدنى تغير في معانيه.
مثاله: قول الشاعر:
علفتها تبنا وماء باردا
…
عطف الماء على التبن "في العلف"، مع أن الماء لا يعلف بل
يسقى لكن لما اشترك التعليف والسقي في أصل التناول، حسن العطف.
ونظيره أيضا قول الآخر:
ولقد رأيتك في الوغى
…
متقلدًا سيفاً ورمحا.
عطف الرمح على تقليد السيف مع أنه لا / (320/ب) يقلد، وإنما يعتقل لكونهما جملتين متقاربتين.
وقال الآخر:
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت
…
بالجلهتين ظباؤها ونعامها.
عطف النعام على الظباء في الأطفال مع أن النعام لا يطفل، وإنما يبيض لاشتراكهما في إخراج ما يبقى به النسل.
فإن قلت: ليس تأويلكم لقراءة الكسر، أولى من تأويلنا لقراءة النصب، وهو أن يجعل نصبه على العطف على محل الرأس، لا أنه معطوف على
الأيدي، فإن الرأس في محل النصب، لأنه مفعول به، والتقدير وامسحوا رؤوسكم، وإنما كسر لدخول الجار عليه وهكذا حكم كل مجرور اتصل الفعل به بواسطة الجار، والعطف على المحل ليس بضعيف باتفاق أهل الصناعة، ويشهد لهم اعتبارهم المعاني في مواضع لا تخفى عليك، قال الله تعالى:} إن وعد الله حق والساعة {قرئ بالرفع على أنه معطوف على محل اسم إن.
قال الشاعر:
معاوى إننا بشر فاسجح
…
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
نصب الحديد على أنه معطوف على محل الجبال، فإنها في محل النصب لكونها خبر ليس.
وإنما كسر لدخول الباء الجارة.
نعم: هو خلاف الظاهر، فإن الظاهر أن المعطوف تابع للمعطوف عليه في اللفظ والمعنى، لكن ما ذكرتم أيضا خاف الظاهر.
فلم قلتم: أن جريكم على ظاهر قراءة النصب، وتأويل قراءة الكسر أولى من الجري على ظاهر قراءة الكسر، وتأويل قراءة النصب وعليكم الترجيح، لأنكم المستدولن، ثم إنه معنا، لأن تأويلنا ليس فيه إلا مخالفة اللفظ، وأما تأويلكم ففيه مخالفة اللفظ والمعنى فكان ما ذكرنا أولى.
قلت: لو أولنا قراءة الكسر لمجرد قراءة النصب كان ما ذكرتم متجها، لكنا لا نؤلها لمجردها، بل لما سبق من الإجماع والنقل الصحيح عن الرسول
عليه السلام، بأنه كان يغسل الرجلين ولم ينقل عنه مسحهما فتأويلنا غير مستلزم بهذه الأدلة، وتأويلكم يستلزم ذلك فكان ما ذكرنا أولى.
ولنقتصر على هذا القدر من مباحث التأويل، فإنه ليس المقصود منه نصرة المذاهب وتزييف كلام الخصم حتى يتسع الكل، بل المقصود منه تمرين الناظر فيه وتثقيفه، ليتمكن من تميز الصحيح منه عن الفاسد، وليقدر على استنباط الصحيح منه.
وهذا المقصود حاصل لهذا القدر لمن له فطانة مرشدة.
النوع التاسع
الكلام في المفهوم
وفيه مسائل: