الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
اختلفوا في قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" و"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" و"لا نكاح إلا بولي
وشاهدي عدل" ..........................
و"لا صلاة إلا بطهور" وأمثالها فذهب جماهير الأصوليين إلى أنه لا إجمال فيها مطلقا.
وذهب القاضي أبو بكر، وأبو عبد الله البصري، إلى أنه مجملة مطلقا، ونقل ذلك أيضا عن أبي علي وأبي هشام.
ومنهم من فصل وقال: حرف النفي إن كان داخلا على مسمى شرعي: كالصلاة، والصوم، فلا إجمال فيه، بل اقتضى نفي نفس الفعل الشرعي، لأنه حقيقة في نفي الذات، كما في قولهم: لا رجل في الدار.
وقد أمكن استعماله في حقيقته بحسب الشرع إذ لا يلزم في ذلك كذب، لاحتمال أن يكون الوصف المفقود معتبرا في ماهية ذلك الفعل وبحسب الشرع فوجب المصير إليه، وإن كان/ (286/ أ) داخلا على مسمى لغوي فقد تعذر استعماله في حقيقته، لأن استعماله فيها يستلزم كذب الشارع، ضرورة أنه وجد مسماه اللغوي، فيجب صرفه إلى حكمه حذارا عن تعطيل النص، فأما أن يكون له حكم واحد، أو أكثر.
فإن كان الأول: نحو الشهادة، والإقرار فيما ندب ستره، فإذا "فرض" ورود "قوله": لا شهادة لمجلود في القذف، ولا إقرار لمن أقر بالزنا مرة واحدة من الشارع، وجب صرفه إلى نفي الجواز، لأنه تعذر إجماله بالنسبة إلى المسمى لما سبق، وكذا في غير ذلك الحكم، إذ ليس له إلا ذلك الحكم الواحد، فيتعين تعليقه به لئلا يتعطل النص.
وإن كان الثاني: نحو الشهادة فيما لا يندب ستره، بل يندب إظهارها فيه، فإذا فرض أنه قال فيه: لا شهادة لمستورين منه، فيحتمل أن يكون المراد منه نفي الفضيلة والكمال، ويحتمل أن يكون المراد نفي الجواز فهاهنا يتحقق الإجمال وهو مختار الأكثرين.
احتج من قال: بنفي الإجمال مطلقا بوجهين:
أحدهما: أن النفي إن دخل على ما له مسمى بحسب عرف الشرع، سواء
كان له مسمى بحسب وضع اللغة، أو لا، وجب حمله على نفيه، لما سبق في تقرير مذهب القائلين بالتفصيل فيما يوصف به.
أما إذا لم يكن له حقيقة بحسب اللغة فظاهر.
وأما إذا كان له حقيقة بحسب اللغة أيضا: فكذلك، لأن الغالب منه عليه السلام استعمال الألفاظ في مسماها الشرعية، والحمل على الغالب، وبتقدير أن لا يحمل عليه لعلة يذكرها الخصم وستعرفها، وجب حمله نفي حكمه، فإن كان له حكم واحد تعين حمله عليه، وإن كان له حكمان وجب حمله على نفي الجواز، لما سيأتي، وعلى كل تقدير لا إجمال، وإن دخل على ما ليس "له" في مسماه عرف تعذر حمله على نفي حقيقته بحسب عرف اللغة لما سبق وحينئذ يجب صرف النفي إلى حكمه، فإن كان له حكم واحد تعين حمله عليه لئلا يتعطل النص، وإن كان له حكمان الكمال والجواز، وجب حمله على نفي الجواز لوجوه:
أحدها: أن اللفظ دال على نفي الذات بطريق الحقيقة، وذلك مما لا نزاع فيه، والدال على نفي الذات بطريق الحقيقة دال على نفي جميع الصفات بطريقة الالتزام لاستحالة بقاء الصفات مع عدم الذات، فإذا تعذر حمله على حقيقته، وجب حمله على لازمه وهو نفي جميع الصفات فتنتفي/ (286/ ب) الصحة والكمال.
فإن قلت: دلالة الالتزام تابعة لدلالة المطابقة، فإذا انتفى المتبوع انتفى التابع.
قلت: لا نسلم انتفاء المتبوع فيما نحن فيه، فإن دلالة اللفظ بالمطابقة على نفي الذات متحققة فيما نحن فيه وإنما المدلول المطابقي غير متحقق، ولا يلزم من انتقاء المدلول انتفاء الدلالة، وليس المعنى من كون دلالة الالتزام والتضمن تابعة لدلالة المطابقة، هو أنه حيث لم يتحقق المدلول المطابقي لم يتحقق المدلول الالتزامي والتضمني، لأن ذلك يقتضي عدم جواز الحمل على المجاز عند تعذر الحمل على الحقيقة، وهو شرط له.
وثانيها: أنا بينا في اللغات أن اللفظ إذا تعذر حمله على حقيقته، يجب حمله على المجاز الذي هو أكثر مشابهة للحقيقة، ولا شك أن المشابهة بين المنفى، وبين ما لا يصح، ولا يفضل أكثر وأتم من المشابهة بين المنفي وبين ما لا يفصل، ولكنه يصح، وإذا كان كذلك كان الحمل عليه واجبا عند تعذر حمله على نفي الذات.
وثالثها: أن القول بالحمل على نفي الصحة يقتضي رفع الإجمال، والقول بترديد اللفظ بينه وبين نفي الفضيلة يقتضي إثباته، ولا شك أن الإجمال خلاف الأصل فما يقتضيه أيضا خلاف الأصل، وأما أنه يحمل على نفي الفضيلة فقط فقول لم يقل به أحد، وعند هذا يجب حمله على رفع الجواز.
وثانيهما: أن المتبادر إلى الفهم عند السماع من استعمال النفي فيما هو غير منفي حقيقته إنما هو نفي فائدته وجدواه كقولهم: لا بلد إلا بسلطان، ولا سلطان إلا بعدل، ولا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد، ولا حكم إلا لله ولرسوله، ولا طاعة إلا لله ولرسوله، والتبادر دليل الحقيقة، فيكون حقيقة فيه سواء كان بحسب اللغة، أو بحسب العرف الطارئ، وعلى كل تقدير يلزم أن لا يكون اللفظ مجملا، ومتوقفا فيه في الحمل بين نفي الكمال، وبين نفي الجواز، بل هو محمول على حقيقته، وهو نفي الفائدة والجدوى، ولا شك أن ذلك يقتضي نفي الجواز، لأن كل ما كان جائزًا كان مفيدا لآثاره، فهو إذًا دال على نفي الجواز.
احتج الخصم بوجوه:
أحدها: أن حرف النفي إذا دخل على غير ما هو غير منفي بحسب الصورة فتارة يفيد نفي صحته، نحو قوله عليه السلام:"لا صلاة إلا بطهور"، و"قوله":"لا نكاح إلا بشهود".
وتارة يفيد نفي الفضيلة أو الكمال فقط نحو قوله عليه السلام: "لا صلاة للعبد الآبق حتى يعود إلى "أهله""، و"لا صلاة لجار المسجد إلا في
المسجد" والأصل في الاستعمال/ (287/ أ) الحقيقة فهو حقيقة فيهما، إما بحسب اللفظ، أو بحسب المعنى وإنما كان يلزم الإجمال.
......................................................................
وجوابه: أنه حقيقة في نفي الصحة أو فيما يستلزمه مجاز في نفي الكمال، وهذا وإن كان خلاف الأصل، لكن الاشتراك والتواطؤ الذي هو مجمل أيضا خلاف الأصل.
فلم قلتم: إنه أولى من التجوز وعليكم الترجيح لأنكم المستدلون؟ ثم أنه معنا، أما بالنسبة إلى الاشتراك "فلما" سبق في اللغات.
وأما بالنسبة إلى التواطؤ الذي هو مجمل، فلأن المجاز أكثر من جميع أنواع المجمل للاستقراء، فضلا عن المتواطئ الذي هو مجمل، وذلك يدل على قلة اشتماله على المفسدة بالنسبة إلى المجمل.
وثانيها: أن حرف النفي يقتضي نفي مسمى ما دخل عليه، فإن لم يكن له مسمى شرعيا لم يكن حمله على مقتضاه لئلا يلزم كذب الشارع، وحينئذ يجب صرفه إلى نفي حكمه لئلا يتعطل النص، فإما أن يصرف إلى الكل، وهو باطل، لأنه كثير إضمار من غير ضرورة، إذ الضرورة تندفع بإضمار واحد منها، ولأن إضمار الكل قد يتناقض لأن نفي الكمال يستلزم ثبوت الصحة بطريق المفهوم، فلو أضمرنا معه الصحة لزم التناقص، أو إلى بعض معين وهو أيضا باطل، لأنه ليس البعض أولى من البعض، أو إلى بعض غير معين أي بعض كان وهو المطلوب، وإن كان له مسمى شرعيا سواء كان مع اللغوي أو هو وحده لم يكن صرف النفي إلى نفي الحقيقة أيضا: إذ المسمى حاصل بدليل أنه يصدق عليه الاسم مع ذهاب ذلك الوصف الخصوص، قال عليه السلام:"دعي الصلاة أيام إقرائك" ويقال: الصلاة فاسدة بدون قراءة الفاتحة، والصوم الفرض بدون نية من الليل فاسد، والأصل في الاستعمال هو الحقيقة، وإذا لم يكن حمله على المسمى وجب صرفه إلى حكمه أيضا لما مر، وما "في""التقريب" كما مر، ولو
سلم أنه يمكن حمله لكن لا يتعين لذلك، لأن ذلك الوصف المفقود يحتمل أن يكون داخلا في ماهية المسمى، ويحتمل ألا يكون داخلا فيها في اعتبار الشارع، فعلى الأول، يمكن الحمل على المسمى، وعلى الثاني لا، وحينئذ يتردد اللفظ بين نفي المسمى، وبين نفي الجواز، وبين نفي الكمال فبتقدير إمكان الحمل على نفي المسمى الشرعي يرد احتمال الإجمال، لأنه يرفعه كما ذكرتم.
وجوابه: أن نقول: لم لا يجوز أن يصرف إلى الكل؟.
قوله: لأنه تكثير الإضمار من غير ضرورة.
قلنا: لا نسلم وقد عرفت سنده في/ (287/ ب) المسألة السابقة.
قوله: في الوجه الثاني: إن إضمار الكل قد يتناقض.
قلنا: نعم لكن عند من يقول بالمفهوم، ونحن لا نقول به.
سلمنا: القول بالمفهوم، لكنه إنما يعتبر حيث لا منطوق، أو ما هي في حكمه يخالفه، فأما معه فلا.
سلمنا: ذلك لكن لم لا يجوز أن يصرف إلى بعض معين؟.
قوله: ليس البعض أولى من البعض.
قلنا: بل الصرف إلى نفي الجواز أولى لما سبق، ونخص القسم الثاني: أنا لا نسلم لا يمكن صرف النفي إلى المسمى، وهذا لأنه يجوز أن يكون الوصف المفقود داخلا في المسمى في اعتبار الشارع، فينتفي المسمى بانتفائه فحينئذ يتصرف النفي إليه.
قوله: المسمى حاصل بدليل صدق الاسم عليه.
قلنا: لا نسلم وصدق الاسم عليه إنما هو على وجه التجوز للمشابهة في الصورة، بدليل أن لو حلف أنه لا يصلي، فصلى صلاة فاسدة لا يحنث، ولأن في حمل التمسية على التجوز جمعا بين ظاهر النفي وبين التسمية، لأن ظاهر النفي يقتضي نفي مسمى ما دخل عليه، بخلاف حمله على الحقيقة، لأن ظاهر النفي يصير متروكا فكان أولى.
وبهذا خرج الجواب أيضا عن قوله: أنه لا يتعين لذلك [بتقدير الإمكان، لأنه يتعين لذلك] ظاهرا لظاهر النفي.
وثالثها: أن صرف النفي إلى الجواز، عند تعذر صرفه إلى الحقيقة يترجح من وجه، وهو أنه أقرب إلى الحقيقة، وأكثر مشابهة لها، وصرفه إلى الكمال يترجح من وجه آخر، وهو أنه متيقن، لأنه منتفي على تقدير نفي الصحة أيضا، لكن غايته أنه على سبيل الالتزام، وإذا ترجح كل منهما على صاحبه من وجه لم يتعين، لأن يصرف النفي إليه وحينئذ يتحقق الإجمال.
وجوابه: أن الصرف إلى الجواز أولى، لأنه لازم ما يتبادر إليه الفهم، ولأن فيه تقليل مخالفة الدليل ومراعاة زيادة المشابهة ونفي الإجمال.
فإن قلت: فقوله عليه السلام: "لا عمل إلا بنية" وقوله: "إنما الأعمال بالنيات".