الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغيره، كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحمُّلهم لمشقة ذلك أسهل، مما لو كلّفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك، برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك، لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرّقها أكثر من تفرّق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرّقها فهي أسرع انقياداً من غيرها، وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، بعد أن علم أنه أكرم الخلق على الله، ما كان عليه من عظيم التواضع لربّه، والتصريح بمنّته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء!
وهذا لون من الحياة اختاره الله -جل شأنه- لكل من اصطفاهم لرسالته في سياسة الخلق، وتعليمهم شرائع الحياة الصالحة، وأدب العبوديّة، ومعرفة الخالق، ودلائل قدرته في صنائعه!
وإنما جعل الله هذا في الأنبياء تقدمة لهم؛ ليكونوا رعاة الخلق؛ ولتكون أممهم رعايا لهم في عصورهم؛ ولتكون خير أمة أخرجت للناس في مكان القيادة والريادة للإنسانيّة كافة!
قصة بحيرى الراهب:
وجاء الوقت الذي تهيّأ فيه أبو طالب للرحيل في تجارته إلى الشام، فتعلق به الرسول صلى الله عليه وسلم ليأخذه معه، فرق له أبو طالب واصطحبه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في التاسعة أو العاشرة أو الثانية عشرة من عمره، على اختلاف الروايات!
روى الترمذي قال: حدثنا الفضل بن سهل، أبو العباس الأعرج البغدادي،
حدثنا عبد الرحمن بن غزوان، أو نوح، أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، قال: خرج أبو طالب إِلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلّوا رحالهم، فخرج إِليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرّون به، فلا يخرج إِليهم، ولا يلتفت! قال: فهم يَحُلّون رحالهم، فجعل يتخلّلهم الراهب، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربّ العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين! فقال له أشياخ من قريش: ما علْمُك، فقال: إِنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إِلا خرَّ ساجداً، ولا يسجدان إِلا لنبي، وإِني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه، مثل التفاحة! ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به وكان هو في رِعْيَةِ الإِبل، قال: أرسلوا إِليه! فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إِلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إِلى فيء الشجرة مال عليه! قال: فبينما هو قائم عليهم، وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إِلى الروم، فإِن الروم إِذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه! فالتفت فإِذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إِلا بُعِثَ إِليه بأناس، وإِنا قد أخبرنا خبره، بُعِتْنا إِلى طريقك هذا! فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إِنما اخترنا خِيرةً لك لطريقك هذا! قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟! قالوا: لا. قال: فبايَعوه وأقاموا معه. قال: أنشدكم الله! أيّكم وليّه؟! قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده
حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزوده الراهب من الكعك والزيت! قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إِلا من خلال هذا الوجه (1)!
هذا هو أقوى طريق في هذه القصة!
وقال الجزري: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، أو أحدهما، وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، وعده أئمتنا وهماً، وهو كذلك، فإن سن النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك اثنتا عشرة سنة، وأبو بكر أصغر منه بسنتين، وبلال لعله لم يكن ولد في ذلك الوقت (2)!
ورواه ابن أبي شيبة (3)، والطبري (4)، وأبو نعيم (5)، والحاكم (6)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وليس كذلك؛ لأن قراداً من رجال البخاري فقط، ويونس من رجال مسلم فقط.
وقال الذهبي في تعليقه على الحاكم: أظنه موضوعاً، فبعضه باطل،
(1) الترمذي: (3620) الحلبي ط. ثانية 1395 هـ 1975 م، و (3863) تحفة الأحوذي، دار الكتب العلمية، ط. أولى 1410 هـ 1990 م، وانظر: عيون الأثر: 1: 40، والسيرة النبوية: ابن كثير: 1: 243، والطبقات الكبرى: 1: 150، والروض الأنف: 1: 206، وشرح المواهب: 1: 193، والإصابة: 1: 183، وأبو نعيم في "الدلائل": 1: 217 (109) المكتبة العربية، حلب 1390، والأصبهاني في "الدلائل": 2: 24 والسيرة النبوية: ابن هشام: 1: 236 ط. أولى، المنار 1409 هـ - 1988 م.
(2)
تحفة الأحوذي: 10: 66.
(3)
المصنف: 11: 479، 14:286.
(4)
تاريخ الطبري: 1: 519 - 520.
(5)
الدلائل: 129.
(6)
الحاكم: 2: 615 - 616.
وبين اعتراضاته على سند الرواية ومتنها ووصفها بالنكارة، بل يفهم من كلامه شكه في الرواية كلها (1)!
فأما انتقاده للسند فقد قال عن عبد الرحمن بن غزوان -راويها- (له مناكير) ثم قال: أنكر ما له حديثه عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، في سفر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام، ومما يدل على أنه باطل قوله: ورده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وبلال لم يكن خلق بعد، وأبو بكر كان صبياً (2)! وصححه السيوطي لشواهده (3).
وقال الحافظ (4): رجاله رجال ثقات، وزاد فيها لفظة منكرة، وهي قوله: وأتبعه أبو بكر بلالاً، وقال بعد أن نقل توثيق النقاد لقراد: وله عند الترمذي حديث من رواية أبي موسى الأشعري فيه ألفاظ منكرة (5)، وقال في التعقيب على ذكر أبي بكر وبلال: وسبب نكارتها أن أبا بكر لم يكن متأهلاً، ولا اشترى يومئذ بلالاً، إلا أن يحمل أن هذه الجملة الأخيرة منقطعة من حديث آخر، درجت في هذا الحديث، وفي الجملة، هي وهم من أحد رواته (6)، وقال ابن القيم (7): وهو من الغلط الواضح!
وذكر الألباني تصحيح الجزري للإسناد، وقد سبق ذكره في مقدمة هذا
(1) انظر: السيرة النبوية: 28، والسيرة النبوية الصحيحة: 1: 107.
(2)
ميزان الاعتدال: 2: 581 (4934).
(3)
الخصائص: 1: 142 دار الكتب العلمية ط. أولى 1405 هـ 1985 م.
(4)
الإصابة: 1: 183 (791).
(5)
هدي الساري: 418، ط. الخيرية، القاهرة، وانظر: السيرة النبوية الصحيحة: 1: 109.
(6)
الإصابة: 1: 183 - 184.
(7)
زاد المعاد: 1: 76.
التخريج، وعقب بذكر ما ورد في رواية البزار (وأرسل معه عمه رجلاً) مما يجعل التصحيف في عبارة حديث الترمذي قوياً بين (رجلاً) و (بلالاً)(1)، وقال: بل هي صحيحة (2)!
وعلى كل فإن وجود النكارة في الفقرة الأخيرة لا يعني ضعف سائر الرواية، وأما توسع الذهبي في الرد لمجرد احتمالات قابلة للنقاش، ولا تصلح أدلة للطعن في سائر الرواية فلا مبرر له!
ويمكن أن تطمئن النفس إلى إثبات سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى (بصرى)(3)، وتحذير الراهب لعمه من يهود الروم، بالاعتماد على رواية الترمذي -التي ذكرناها- والاستئناس بالروايات الضعيفة الأخرى!
أما بالنسبة لمعلوماتنا عن بحيرى، فإن المصادر لا تكاد تتفق على شيء بشأنه، بل هل متضاربة في اسمه، فمرة (جرجيس)، وأخرى (جرجس) وثالثة (سرجيس)، ورابعة (سرجس)(4)، ومرة أنه مشتق من الآرامية، معناه المنتخب، وأخرى من السريانية، معناه العالم المتبحر (5)، ومرة لقبيلة عبد القيس، فهو عبقسي، ومرة هو نصراني (6)، وأخرى يهودي (7)!
(1) انظر: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة: 66: 67 منشورات مؤسسة ومكتبة الخافقين، دمشق.
(2)
فقه السيرة: الغزالي: 66 دار القلم، ط. ثانية 1405 هـ 1985 م، وانظر: صحيح سنن الترمذي للألباني: 3: 191 (2862 - 3881) مكتبة التربية العربي لدول الخليج، ط. أولى 1408 هـ 1988 م.
(3)
السيرة النبوية الصحيحة: 1: 109.
(4)
انظر: شرح المواهب: 194، والروض الأنف: 1: 118، ومروج الذهب: 2: 75، ودائرة المعارف الإِسلامية: 2: 397.
(5)
انظر: دائرة المعارف الإِسلامية: 2: 397، ودائرة المعارف للبساني: 5: 218.
(6)
انظر: مروج الذهبي: 1: 75.
(7)
انظر: السيرة النبوية الصحيحة: 1: 111.